الحكم النّحوي ثمانية أنواع:
- الحكم الأوّل: الواجب.
كرفع الفاعل نحو:" اجتهدَ الطّالبُ ".
وتأخّر الفاعل عن الفعل عند البصريّين[1].
وتنكير الحال والتّمييز، وغير ذلك.
ولا بدّ أن نعلم أنّ قولهم: ( واجب )، يقصدون به الوجوب الصِّناعيّ، لا الشّرعيّ الّذي يأثم تاركه.
- الحكم الثاني: الممنوع؛ ولا يقال ( الحرام )، لأنّ الحرمة تتعلّق بالأحكام الشّرعيّة.
وأمثلته عكس ما ذكر في الواجب.
- الحكم الثالث: الحسن. ومن الأمثلة على ذلك:
أ) رفع المضارع الواقع جوابا لشرط ماضٍ، قال زهير:
وإن أتـاه خليل يوم مسـألـة يقولُ: لا غـائب مالـي ولا حرِمُ[2]
ووجه حُسنِه أنّ الأداة حين لم تعمل في لفظ الشّرط لكونه ماضيا مع قربه، حسُن ألاّ تعمل أيضا في الجواب مع بُعده.
ب) ومن الأمثلة أيضا: حذف التّاء مع ( نعم وبئس ) إذا كان الفاعل مؤنّثا، قال ابن مالك رحمه الله في ألفيّته:
( والحذفَ في نعم الفتاة استحسنوا لأنّ قصـــد الجنـــس فيـه بيّـــــن )
فإذا قلت:" نعم الفتاة هندٌ "، كان الكلام حسنا، ذلك لأنّه بمثابة قولك: نعم جنس الفتاة هندٌ.
- الحكم الرّابع: الأحسن، ومن الأمثلة على ذلك:
أ) جزم الجواب بعد شرط ماض[3]، ومنه قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15].
ب) وكإثبات التّاء مع الفعل إذا كان الفاعل مؤنّثا، حيث لا موجب لها ولا مانع.
فإذا قلت:" نعمت الفتاة هند "، فهو أفضل من حذف التّاء، لأنّك حينئذ راعيت الأصل، وهو تأنيث الفعل إذا كان الفاعل مؤنّثا.
- الحكم الخامس: القبيح:
كرفع المضارع بعد شرط مضارع؛ فإنّه ضعيف عند جمهور النّحاة كما في " أوضح المسالك " (4/208).
وبعضهم قال: إنّه ضرورة، وليس كذلك لثبوته في النّثر، فقد قرأ طلحة بن سليمان:{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء: من الآية78]، برفع ( يدركُكُم ).
أمّا كيفيّة إعرابه، فإنّهم قد خرّجوه على إضمار الفاء[4].
- الحكم السّادس: خلاف الأوْلى.
وضابطه: كلّ كلام جاء مخالفا للكثير في كلام العرب
ومن الأمثلة: تقديم الفاعل على المفعول نحو ( ضرب غلامُهُ زيداً ) بدلاً من ( ضرب زيداً غلامه ).
- الحكم السّابع: جائز على السواء.
كحذف المبتدأ أو الخبر، أو إثباته حيث لا مانع من الحذف و لا موجب له.
ومثّلوا لذلك بقوله تعالى:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}؛ فإنّه محتمل لحذف المبتدأ، أي: صبري صبرٌ جميل، أو حذف الخبر أي: فصبرٌ جميلٌ أمثل.
- الحكم الثّامن: رخصة: وهو: ما جاز استعماله لضرورة الشّعر.
ولذلك قال ابن مالك في تعريفها: " ما ليس للشّاعر عنه مندوحة ".
أمّا ابن عُصفور رحمه الله فقال: " الشّعر نفسه ضرورة "، والجمهور على هذا حيث قالوا: الضّرورة هي: ما لا يقع إلاّ في الشّعر، وإن وجد الشّاعر مندوحةً.
والصّواب أن يقال إنّه لا خلاف بين القولين: لأنّ مراد ابن مالك رحمه الله هو الضّرورة المبيحة لترك الأصل، وهم يريدون الضّرورة مطلقا سواء كانت حسنة أو قبيحة.
لذلك كانت الرّخصة على سبيل الإجمال نوعين:
1- ضرورة جائزة، وقد توصف بالحُسن:
وهو ما لا يُعاب ولا تستوحش منه النّفس لكثرة وقوعه في كلام العرب، ومن الأمثلة:
أ) صرف ما لا ينصرف: كقول امرئ القيس: ( ويوم دخلت الخِدر خِدر عُنيزةٍ )
ب) حذف ياء منتهى الجموع أو إضافة ياء عليه:
فيقولون في جمع تمثال: تماثل، وفي جمع جلباب: جلابب، وفي سربال: سرابل وهو كثير حتّى جعله أبو عليّ الفارسيّ من الأمور المقيسة الّتي لا تحتاج إلى ضرورة. وجعله السّيوطي في "همع الهوامع " (2/156) من محاسن الضّرورات.
ومن أمثلة إضافتهم الياء قولهم في جمع درهم: دراهيم، وصيرف: صياريف، ومُطفِل[5]: مطافيل، فأشبعوا ذلك كلّه.
قال سيبويه في " الكتاب " (1/28):" وربّما مدّوا مثل: مساجد ومنابر، فيقولون: مساجيد ومنابير ".
ج) تسكين عين ( فعَلة ) في جمع المؤنّث السّالم حيث يجب الإتباع، كقول عروة بن حزام العذريّ من قصيدة رواها القالي في " أماليه ":
( وحُمِّلت زفرات الضّحى فأطقتها وما لي بزَفْرات العَشِيِّ يدانِ )[6]
قال ابن هشام في " أوضح المسالك " (4/305):" ضرورة حسنة ".
2- الضّرورة المستقبحة: وهي: ما تستوحش منه النّفس لمخالفته الأصل وغرابته، وهي دركات.
من أمثلة ذلك:
أ) حذف شيء من الكلمة:
كالبيت الّذي ذكره الآلوسيّ في " الضّرائر "(ص 21) وابن علاّن في " داعي الفلاح " وابن الطيّب الفاسي في " الفيض "(1/337):
( أصابتهم الحِمى وهم عوافٍ وكُـنَّ عليـهمُ تَعسـا لهـــنَّ )
أراد الحِمام، وهو الموت.
ومثله قول جميل بن معمر العُذريّ كما في " ديوانه " (ص 28) و" أمالي القالي " (1/216) و" خزانة الأدب " (6/278):
( أريد صلاحها، وتريد قتلي وشتّا بين قتلي والصّـلاحِ )
وإنّما حكموا عليها بالضّرورة المستقبحة فحسب لظهور المعنى.
ب) صرف ( أفعل من ):
قال حازم الأنصاريّ في " منهاج البلغاء " (383): " وأشدّ ما تستوحشه النّفس تنوين أفعل من ".
ج) الزّيادة المؤدّية إلى ما ليس له أصل في كلام العرب:
وهذه قال عنها السّيوطي في " الاقتراح ":" وأقبح الضّرائر: الزّيادة المؤدّية لما ليس أصلا في كلامهم كقوله:
( وأنّني حيثما يثني الهوى بصري من حيثما سلكــوا أدنــو فأنظور )".
وقولهم في ( شمال ):" شيمال ".
د) النّقص المجحف: كقول لبيد:
( درس المنا بمٌتالع فأبانِ فتقادمت بالحِبس والسّوبان )
يريد: المنازل !
( فائدة ) الحاجة قد تنزل منزلة الضّرورة:
قد ألحقوا بالضّرورة:" الحاجة إلى تحسين النّثر بالازدواج ".
والازدواج: هو استعمال كلمة على خلاف الأصل لاقترانها بأخرى، وقد يُسمّيه بعضهم ( التّناسب ) ومن أمثلة ذلك:
- الفعل ( أَبْدَأَ )، والفصيح ( بدأ )، بل لا يكاد يُسمع أبدأ، قال تعالى:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}،{فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: من الآية20].
ولكنّه تعالى قال أيضا:{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت: من الآية19]، وقال:{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:13]، وذلك لاقترانه بالفعل (يُعِيدُ)، فحسُن عندئذ الكلام بالتّانسب.
- ويذكرون أنّ منه قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ ))[7] ، وكان الأصل ( موزورات ) لأنّه من الوزر، ولكنّه لمّا اقترن بكلمة مأجورات المهموزة همزت الكلمة لذلك.
- ومثله قوله صلّى الله عليه وسلّم لوفد عبد القيس- وهو في الصّحيحين -: (( غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى )).
فمن قال إنّ النّدامى جمع نادم والأصل ( غير نادمين )، كان ذلك من باب الازدواج؛ لأنّه اقترن بـ( خزايا )-جمع خزيان- فجُمع على ( ندامى ).
ومن قال إن النّدامى جمع ندمان لم يكن فيه شاهد.
- ومثله قولهم:" الغدايا والعشايا "، والأصل: الغدوات.
قال الحريريّ في " الدرّة " (ص 66):" وقد نطقت العرب بعدّة ألفاظ غيّرت مبانيها لأجل الازدواج، وأعادتها إلى أصولها عند الانفراد فقالوا: الغدايا والعشايا إذا قرنوا بينهما، فإذا أفردوا ردّوها إلى أصلها، فقالوا: الغدوات ".
- قراءة نافع والكسائيّ ( سَلاَسِلاً ) و( قَوَارِيراً )، وقراءة الأعمش: ( وَلاَ يَغُوثاً وَيَعُوقاً وَنَسْراً )، قال ابن مالك رحمه الله في " الخلاصة ":
( وَلِاضْطِرَارٍ أَوْ تَنَـاسُبٍ صُرِف ذُو المَنْعِ، وَالمَصْرُوفُ قَدْ لاَ يَنْصَرِف )
[1] إذ لو تقدّم لصار مبتدأً، ولقد أجاز الكوفيّون تقدُّم الفاعل.
وفائدة الخلاف تظهر في نحو قولك:" الطّلاب يجتهدون "، فتجب المطابقة عند البصريّين، لأنّ الاسم المتقدّم صار مبتدأ.
وأمّا الكوفيّون فيجيزون إفراد الفعل لأنّ الفعل يبقى مفردا ولو تعدّد الفاعل فيقولون: الطّلاب يجتهد.
قال ابن هشام في " مغني اللّبيب " (580): " لا يجيز البصريّ تقديمه مطلقا ".
[2] البيت من شواهد سيبوبه (1/436). ومعنى ( الخليل ) هنا: هو الفقير، من الخَلّة وهي الفقر، ومن أقوالهم: الخَلّة تدعو إلى السلّة، أي: الفقر يدعو إلى السّرقة.
والحرِمُ: الممنوع.
[3] حكم عليه بأنّه أحسن ابن الطيّب الفاسي، أمّا ما ذكره أبو حيّان أنّ بعضهم قال عن الرّفع إنّه أحسن فمردود؛ لأنّهم في حالة رفعه اختلفوا في تخريجه، فقال سيبويه: إنّه على نيّة التّقديم والجواب محذوف، وقال المبرّد والكوفيّون: إنّه جواب على حذف الفاء.
[4] ونظيره بيت " الكتاب " (1/435)، ويُنسب لعبد الرّحمن بن حسّان بن ثابت وقيل لكعب بن مالك:
( من يفعل الحسنات الله يشكرُها والشرّ بالشرّ عند الله مثلان )
[5] جاء في " المصباح ": أطفلت كلّ أنثى: إذا ولدت.
[6] أي كلّفت حمل ما فيه جهد ومشقّة في النّهار ولكن لا طاقة لي بحمل ذلك في العشيّ.
[7] رواه ابن ماجه عن عليّ رضي الله عنه قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَإِذَا نِسْوَةٌ جُلُوسٌ، قَالَ: (( مَا يُجْلِسُكُنَّ ؟)) قُلْنَ: نَنْتَظِرُ الْجِنَازَةَ، قَالَ: (( هَلْ تَغْسِلْنَ ؟)) قُلْنَ: لَا، قَالَ: (( هَلْ تَحْمِلْنَ ؟)) قُلْنَ: لَا، قَالَ: (( هَلْ تُدْلِينَ فِيمَنْ يُدْلِي )) قُلْنَ: لَا، قَالَ: (( فَارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ ))، وهو حديث ضعيف.