الأصول: جمع أصل وهو: ما يُبنى عليه غيره.
والنّحو: في اللّغة له معان عشرة، أشهرها ثلاثة:
1-بمعنى المثل، كقولك وأنت تمثّل لأمر ما:" نحوُ قوله تعالى ..."، أي: مثل قوله تعالى.
2-بمعنى المقدار، كقول عائشة رضي الله عنها: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالسا، فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته نحوٌ من ثلاثين أو أربعين آية قام، فقرأها وهو قائم، ثم يركع ثم سجد " [رواه البخاري].
3-بمعنى الجهة، كقول البراء رضي الله عنه:" صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوَ بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا " [رواه البخاري].
وفي الاصطلاح هو: علم بأصولٍ يُعرف بها أحوال أواخر الكلم العربيّة إعراباً وبناءً وما يتبع ذلك.
- وفائدته:
له فوائد عدّة، أهمّها:
1- صون اللّسان من الغلط واللّحن.
قال ابن جنّي في " الخصائص " (1/34):" هو انتحاء سمْتِ كلام العرب ليلحق مَنْ ليس مِنْ أهل العربية بأهلها في الفصاحة ".
لذلك سمّي هذا العلم نحوا؛ لأنّه الجهة الّتي يقصدها المتكلّم ليصل إلى كلام العرب الفصيح الصّحيح.
2- فهم كلام الله تعالى وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن فضّال في " شرح عيون الإعراب " (ص123):
" فإنّ النّحو علم يُعرف به حقائق المعاني، و يوقف به على معرفة الأصول و المباني، و يحتاج إليه في معرفة الأحكام، ويستدلّ به على الفرق بين الحلال و الحرام، و يُتوصّل بمعرفته إلى معاني الكتاب، و ما فيه من الحكمة و فصل الخطاب ".
- ونسبة هذا العلم: إلى العلوم العربيّة الاثني عشر وهي:
1-اللّغة ( أي: المفردات). 2- والنّحو. 3- والصّرف 4- والمعاني. 5- والبيان. 6- والبديع. 7- والعروض. 8- والقافية. 9- وقرض الشّعر. 10- والخطّ. 11- والمحاضرات ( تاريخ الأدب ). 12- والرّسائل والخطب.
ذكرها - أو بعضها - غير واحد من أهل العلم كالإمام الأنباريّ (تـ: 557) في " نزهة الألبّاء وطبقات الأدباء "، وأبي الحسن القرطاجنّي (تـ: 684) في " منهاج البلغاء "، والسّيوطي في " المزهر ".
- فما معنى أصول النّحو ؟
قال ابن الأنباريّ رحمه الله تعالى:
" أصول النّحو أدلّة النّحو الّتي تفرّعت منها فروعه وفصوله، كما أنّ أصول الفقه أدلّة الفقه الّتي تنوّعت عنها جملته وتفصيله ".
وعرّفه المتأخّرون بأنّه:
( العلم بالأحكام النّحويّة، وأدلّتها الإجماليّة، وكيفيّة الاستدلال، وحال المستدلّ ).
قال السّيوطيّ في " الاقتراح ": " هو بالنّسبة إلى النّحو، كأصول الفقه بالنّسبة إلى الفقه ".
* وضع علم النّحو وأصوله.
السّبب الرّئيس لظهور علم النّحو هو ظهور اللّحن في كلام العرب، وصار بعضهم يلحن في كتاب الله، وتسرّب الخطل إلى بعض ألسنة الخطباء والبلغاء في عصر بني أميّة.
بل تسرّب اللّحن إلى بعض أهل البادية ! فقد ذكر الجاحظ في " البيان والتبيّن " أنّ أوّل لحن سُمِع بالبادية قولهم: " هذه عصاتي ".
فكان ذلك منذرَ خطرٍ عظيم، فتضافرت جهود العلماء وذوي السّلطان على صيانة العربيّة:
العلماء يدفعهم عِلْمهم وواجبهم.
والسّلاطين تدفعهم عصبيّتهم، فقد كانت الخلافة في أعرق بيوت قريش.
من واضع علم النّحو ؟
اختلف النّاس في أوّل من وضع أسس علم النّحو:
- فقالت طائفة: هو أبو الأسود الدُّؤلي (تـ: 67).
- وقال آخرون: هو نصر بن عاصم (تـ: 89)، وأنّ أبا الأسود كان واضع الحركاتِ والتّنوين لا غير، كما في "صبح الأعشى".
- وقال آخرون: هو عبد الرحمن بن هرمز (تـ: 117).
- وقيل: لم يصل إلينا شيء عن أحدٍ قبل يحيى بن يعمر ( تـ: 129).
والصّواب هو القول الأوّل، أنّه أبو الأسود رحمه الله.
وإنّ الّذي يمعن النّظر في " تاريخ دمشق " مثلا، ثمّ يستحضِر تلك الصّفات الّتي حباه الله بها، من ذكاء نادر، وجواب حاضر، وبديهة نيّرة، ويستحضر أيضا أنّه هو واضع الشّكل المعروف بنقط أبي الأسود الدّؤلي ليخلُص إلى رأي أكثر النّاس، بأنّه أوّل واضع للعلم.
واسمه ظالم بن عمرو بن سليمان، وكان من سكّان البصرة، ونسبته إلى دؤل، وقد يقال ( الدَّيْليّ ).
جاء في " الأعلام " للزّركليّ (3/236):
" كان معدودا من الفقهاء والأعيان والأمراء والشّعراء والفرسان والحاضري الجواب، من التابعين، رسم له عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه شيئا من أصول النّحو، فكتب فيه أبو الأسود، وأخذه عنه جماعة.
سكن البصرة في خلافة عمر رضي الله عنه، وولي إمارتها في أيّام عليّ رضي الله عنه، استخلفه عليها عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه لمّا شخص إلى الحجاز، ولم يزل في الإمارة إلى أن قُتِل عليّ رضي الله عنه، وكان قد شهد معه ( صِفِّين ).
ولمّا تمّ الأمر لمعاوية رضي الله عنه قصده فبالغ معاوية رضي الله عنه في إكرامه.
وهو- في أكثر الأقوال - أوّل من نقط المصحف[1]، مات بالبصرة ".
كان رحمه الله محبّا لعليّ رضي الله عنه وولده، وكان نازلاً في بني قشير بالبصرة، وكانوا يرجمونه باللّيل لمحبّته لعليّ رضي الله عنه وولده، فإذا أصبح وذكر رجمهم قالوا: الله يرجمك، فيقول لهم: تكذبون، لو رجمني الله لأصابني، وأنتم ترجمون فلا مصيب.
وربّما نُسِبت إليه أشعار رُمِي من أجلها بالتشيّع، وفي ذلك نظر، فله في صحيح البخاري روايات عن عمر رضي الله عنه، اللّهم إلاّ إن أرادوا التشيّع الّذي عُرِف به بعض السّلف، وهو تفضيلهم عليّا على عثمان لا على الشّيخين.
وقد اختلف الناس في السّبب الّذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النّحو، فذكروا روايات عديدة، وليس بالضّرورة أن يكون هناك سببٌ خاصّ، فإنّ بوادر اللّحن الّتي ظهرت في العرب تلكم الأيّام لكافية وكفيلة بأن ينهض من أجلها أبو الأسود وغيره من الأئمّة لوضع النّحو العربيّ.
أمّا ما يذكرونه من أنّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هو من ناول أبا الأسود رقعة فيها أصول الكلام العربيّ وبعض تقسيماته، فهو بعيد جدّا، لذلك قال أحمد أمين في " ضحى الإسلام " (2/258): " وأخشى أن يكون ذلك من وضع الشّيعة الّذين يريدون أن ينسبوا كلّ شيء إلى عليّ وأتباعه ".
فكلّ ما يمكننا أن نجزم به أنّ أبا الأسود الدّؤليّ وضع أساسا بنى عليه من بعده علم النّحو، وما هذا الأساس ؟ لا نجدُ جوابا يشفِي العليل، ولا يليق الخوض في ذلك دون نصّ ودليل.
من حمل اللّواء بعد أبي الأسود ؟
أخذ عن أبي الأسود الدّؤلي جمّ غفير من أئمّة اللّغة أشهرهم وأبرزهم:
- يحيى بن يعمر ( تـ: 129)، فكان من أئمّة اللّغة عالما أمينا وقد روى عن ابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم.
- عنبسة بن معدان وهو عنبسة الفيل، قال الخليل عنه: " أبرع أصحاب أبي الأسود ".
- ميمون الأقرن، وكان رأسا في اللّغة، حتّى إنّ أبا عبيدة لا يذكر غيره في هذه الطّبقة.
- نصر بن عاصم اللّيثي (تـ: 89)، وهو من القرّاء الفصحاء، وهو صاحب النّقط الثّاني الّذي يُعرف اليوم بالإعجام.
ثمّ تخرّج على يد يحيى بن يعمر وميمون الأقرن:
- أبو عمرو بن العلاء (70-154)، من أوثق النّاس رواية وأشدّهم فيها، وهو من القرّاء السّبع، قال عنه الزّهري: إنّه ليفلق بالعربيّة تفليقا بل منهم من قال إنّه واضع علوم اللّغة.
- وابن أبي إسحاق الحضرميّ (تـ: 117)، وكان النّاس يقدّمونه على أبي عمرو في النّحو، ويُذكر أنّه أوّل من علّل النّحو.
ثمّ جاء دور:
- عيسى بن عمر الثّقفي. وبعضهم يعدّه من الطّبقة السّابقة، لأنّه مولى خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولكنّه لمّا أخذ عن أبي عمرو والحضرميّ عدّوه من غيرها، وهو من أئمّة اللّغة والنّحو القراءة
- الأخفش (تـ: 177) هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة.
قال في " عيون الأخبار ": " وهو أحذق أصحاب سيبويه، وهو أسنّ منه، والطّريق إلى كتاب سيبويه الأخفش، وذلك أنّ كتاب سيبويه لا نعلم أحداً قرأه على سيبويه ولا قرأه عليه سيبويه، ولكنّه لمّا مات سيبويه قرِئ الكتاب على أبي الحسن الأخفش .. وكان أبو العباس ثعلب يفضل الأخفش ويقول: كان أوسع الناس علماً وله كتب كثيرة في النحو والعروض والقوافي ".
- أبو زيد الأنصاري سعيد بن أوس: (تـ: 215) كان معروفا بالعلم والثّقة في الرّواية.
- يونس (تـ: 182) الّذي إذا قال سيبويه:" حدّثني الثّقة " كان هو المقصود.
- أبو جعفر الرّؤاسيّ. محمد بن الحسن بن أبي سارة الرؤاسي أبو جعفر سمّي بذلك لأنّه كان كبير الرّأس، وهو أوّل من وضع من الكوفيّين كتابا في النّحو، وهو أستاذ الكسائي والفراء، وكان رجلاً صالحا.
قالوا: كلّ ما في كتاب " سيبويه ": وقال الكوفيّ كذا فإنّما عني به الرّؤاسي، وكتابه يقال له الفيصل.
- الخليل بن أحمد الفراهيدي (تـ: 175). كان الغاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس فيه، وهو أوّل من استخرج العروض وحصر أشعار العرب بها، وعمل " كتاب العين " المعروف المشهور الّذي به يتهيّأ ضبط اللّغة، وعامّة الحكاية في كتاب سيبويه عن الخليل، وكلّ ما قال سيبويه: وسألته، أو قال من غير أن يذكر قائله فهو الخليل.
ثمّ ظهر:
- سيبويه (تـ:180). رائد المدرسة البصريّة.
- الكسائيّ (تـ: 179).
- والفرّاء. وهذان رائدا المدرسة الكوفيّة.
وتضمّنت كتب هؤلاء ومصنّفاتهم ومقالاتهم وردود بعضهم على بعض قواعد كانت مبثوثة منثورة، غير مجموعة في كتاب ولا محصورة، ولم يظهر كتاب خاصّ بأصول النّحو حتّى:
- جاء ابن جِنِّي (تـ: 392) فكانت أوّل محاولة لوضع كتاب في " أصول النّحو "، حيث وضع " الخصائص " فكان زاخرا بالقواعد الأصوليّة كالعلّة والقياس والسّماع وتركيب اللّغات، وغير ذلك.
- ولكنْ، في القرن السّادس قام ابن الأنباري (تـ: 577) فوضع أوّل كتاب مفردٍ خاصّ بعلم أصول النّحو حيث رسم حدوده، وبيّن مسائله، وكان هذا الوضع على هيئة كتب أصول الفقه.
من أجل ذلك كان ابن الأنباريّ هو مبتكر هذا الفنّ وأضافه إلى علوم اللّغة العربيّة، في كتاب أسماه " لُمع الأدلّة في علم أصول النّحو "، كما ألّف كتابا آخر باسم " الإعراب في جدل الإعراب "، تناول فيه موضوعات أصوليّة كثيرة.
- ثمّ جاء الإمام السّيوطيّ (تـ: 911) فألّف كتابه " الاقتراح في أصول النّحو وجدلِه ".
- وجاء الإمام ابن علاّن (تـ: 1075) – وهو صاحب كتاب " دليل الفالحين "-، فشرح كتاب السّيوطيّ في كتاب سمّاه " داعي الفلاح لمُخبّآت الاقتراح "، وهو شرح ممزوج بالمتن.
- ثمّ جاء الإمام محمّد بن الطيّب الفاسي (تـ: 1170) فشرح كتاب السّيوطيّ وسمّاه " فيض نشر الانشراح من روض طيّ الاقتراح "، وهو حواشٍ على الاقتراح، وهو كتاب نافع جدّا.
[1] انظر: " أخبار النّحويّين البصريّين " للسّيرافيّ (ص16)، و" الفهرست " لابن النّديم (ص60)، و" أخبار النّحوييّن " لأبي طاهر المقرئ.
وقال سعيد الأفغاني رحمه الله في كتابه القيّم " من تاريخ النّحو " (ص 28): " وهو ما أجمعوا عليه قديما ولم يَشكّ فيه حديثا أحدٌ، والشّكل أَعْوَدُ على حفظ النّصوص من حدود النّحو، ولعلّه أعظم خدمة قُدّمت للعربيّة حتّى الآن .."
ولأبي أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلّودي كتاب " أخبار أبي الأسود "، وللدّكتور فتحي عبد الفتّاح الدجني: " أبو الأسود الدّؤلي ونشأة النّحو العربيّ "/ ط: الكويت.