1- أنواع التّحريم.
تحريم الله عزّ وجلّ لبعض الأشياء قد يكون عقوبةً، وقد يكون إكراما ومثوبة.
ومن إكرام الله تعالى لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم أنّه لم يُحرّم عليها شيئا عقوبةً، وإنّما حرّم عليهم ما يضرّهم ولا ينفعهم.
قال ابن القيّم رحمه الله في " زاد المعاد " (4/156):" وما حرّمه الله على هذه الأمّة لخبثه، لا عقوبة كما في بني إسرائيل ".
وقال ابن تيمية رحمه الله:" والله لم يحرِّم على أمّة محمّد شيئا من الطيّبات، وإنّما حرّم ذلك على أهل الكتاب ... وأمّا المسلمون فلم يحرِّم عليهم إلاّ الخبائث " ["مجموع الفتاوى" (19/25)].
ثمّ إنّ التّحريم الّذي هو عقوبة نوعان:
تحريم شرعـيّ: والأصل عدمه، حتّى يجيء النصّ الشّرعيّ فيكون ذلك منه تعالى عدلا.
وقد بيّن الله عزّ وجلّ الطيّبات الّتي حرّمها عقوبةً لبني إسرائيل في آية أخرى؛ ذلك ما جاء في قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146].
( كلّ ذي ظفر ): قال مجاهد وقتادة: ما ليس بمنفرج الأصابع من البهائم والطّير، مثل الإبل والنّعام والإوزّ والبطّ.
( ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما ) واستثنَى من الشّحوم ( ما حملت ظهورهما ) وهو شحم الجنب، أو ما حملته ( الحوايا ) كالمباعر والألية، أو( ما اختلط بعظم ) أي: الشّحم الملتصق بالعظم.
تحريم قدريّ: وهو ما لم يحرّمه الله شرعا، بل جعله حلالا طيّبا، ولكنّ العبد لا يصل إليه إمّا:
أ) لعجزه عنه بسبب الذّنوب، وهذا هو الواقع بكثرة، فيُعاقب العباد بغلاء فاحشٍ للسِّلع والأقوات، ولا تصل أيديهم إلى الطيّبات، فيُحال بينهم وبين ما يشتهون، وهم في غفلة عن ذنوبهم ساهون.
فالغلاء من أنواع العقوبات الربّانيّة للأمم، وقد فسّر كثير من السّلف قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قالوا: يقبض بالغلاء، ويبسط بالرّخص.
وقالوا في قوله تعالى:{فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}: هو وعدٌ لهم بكثرة المحصول وعدم الغلاء.
وفسّر بعضهم قولَ شعيب عليه السّلام لقومه:{وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}: هو حلول الغلاء المهلك. فيشبه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ )) [رواه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه وهو صحيح].
وفسّروا قوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحْسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَعَهُ} [الأعراف من:131] بأنّ الحَسَنَة هي الخصب، وأن السَّيِّئَة هي الغلاء. وغير ذلك.
هذا السبب الأول من أسباب التّحريم القدريّ الكونيّ، والسبب الثاني:
ب) تسلّط من يحرّم ذلك على النّاس. فقد تُبتَلى الأمم بعلماء السّوء، وسلاطين الجور:
- علماء السّوء الّذين يُحرّمون على النّاس ما أحلّ لهم، كما حرّم الكهنة والسّدنة على المشركين البحائر والسّوائب وغير ذلك.
أمّا اليهود فـ:" ... قيل: إنّ المحرّمات عليهم ثلاثمائة وستّون نوعا، وكذلك شدّد عليهم في النّجاسات، حتّى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت " ["مجموع الفتاوى" (3/372)].
- وسلاطين الجور، فيُبتَلى النّاس بالقوانين الوضعيّة الّتي تحرّم كثيرا ممّا أحلّه الله عزّ وجلّ: كشيوع المكس والضّرائب، والتّضييق في كثير من مجالات المهن والحِرف، والحجر على الأراضي، وغير ذلك.
وصدق ابن المبارك رحمه الله القائل:
وهل أفسد الدّينَ إلاّ الملوك *** وأحبـار سـوءٍ ورهبـانها
واليهود وقعوا في الأمْرَين، فذاقوا الأمرّين، مع أنّ حالهم كان قبلُ:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ} [آل عمران: من الآية93].
فلماذا حرّم الله عليهم الطيّبات ؟
2- أساب العقوبة بتحريم الطيّبات.
ولا بدّ من النّظر والاعتبار بمصارع الأمم، حتّى يجتنبها المسلم الّذي ينشُد الحياة الطيّبة في الدّنيا والآخرة، وقد قال الله عزّ وجلّ: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}.
قال الله تعالى يبيّن أسباب هذا العقاب:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (161)} [النّساء].
( فَبِظُلْمٍ ): الباء سببيّة، وإنّما نكّر الظّلم للتّعظيم، وكأنّه قال: فأيّ ظلم اقترفوه حتّى حرّمنا عليهم طيّبات ؟
1) أمّا ظلمهم: فهو أنواع، وأعظمه الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء بغير حقّ، وقولهم قلوبنا غلف، وبكفرهم بالمسيح عليه السّلام، وقولهم على مريم البهتان العظيم، وغير ذلك ممّا لا يُحصى.
2) أمّا صدّهم عن سبيل الله عزّ وجلّ، فمن وجوه كثيرة؛ لذلك قال:{كَثِيراً}:
فكانوا يفترون على الله الكذب.
ويحرّفون الكلم عن مواضعه، بالزّيادة والنّقصان، وتأويله على غير تنزيله.
وكتموا خبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وتشكيكهم في كتاب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى:{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72]، وقال تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:71].
تفضيلهم للمشركين على المسلمين:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النّساء:50].
موالاة الكفّار لحرب الرّسول صلّى الله عليه وسلّم:{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} [الأحزاب:26].
3) أمّا أكلهم الرّبا وأكل أموال النّاس بالباطل: فإنّ أكل الرّبا هو من أكل أموال النّاس بالباطل، وإنّما خصّه بالذّكر لأمرين:
- لتعظيم أمره، فهو من كبائر الذّنوب، وقد جاءت النّصوص الكثيرة في تحريمه.
- ولأنّ في أكل الرّبا تأكيلا له أيضا، بخلاف أكل مال النّاس بالخيانة، والسّرقة، وقد جاء في الصّحيحين عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: (( لَعَنَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ )).
وفي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ: (( هُمْ سَوَاءٌ )).
ومن صور أكل اليهود لأموال النّاس بالباطل:
الخيانة في الأموال، قال تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75].
قبولهم الرّشوة، قال تعالى:{وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة:62].
أخذهم المال مقابل التّحريف، قال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79].
وإنّ هناك أسبابا أخرى لحرمان النّاس من الخير، منها:
4)- الحـيـل وتتبّع رُخص الفقهاء: فمن أعظم المحرّمات: الاحتيال لانتهاك حرمات الله، ومفاسد هذا الأمر كثيرة، وأعظمها أنّها تمسّ جنب الله تبارك وتعالى، وتطعن في حكمه وحكمته وعلمه، فجزاء المحتال أنّه يضيّق عليه ويمنع من كثير من الخير والسّعة.
قال ابن تيمية رحمه الله في "القواعد النّورانيّة" (130-131):
" و لقد تأمّلت أغلب ما أوقع النّاس في الحيل، فوجدته أحد شيئين إمّا ذنوب جُوزُوا عليها بتضييق في أمورهم فلم يستطيعوا دفع هذا الضّيق إلاّ بالحيل، فلم تزدهم الحيل إلاّ بلاءً كما جرى لأصحاب السّبت من اليهود، وكما قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}...".
5)- التشدّد في الدّين: وذلك للجهل بيسر الشّريعة وسماحتها، كمن يُحرّم على نفسه الطّيبات.
روى أبو داود وغيره عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَخْطُبُ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فِي الشَّمْسِ، فَسَأَلَ عَنْهُ، قَالُوا: هَذَا أَبُو إِسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلّ،َ وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ، قَالَ: (( مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ )).
وقد أراد بعض الصّحابة رضي الله عنهم أن يَخصي رغبة عن النّساء، وخوفا من العنت، فنهاهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ رضي الله عنه قال: كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلَا نَخْتَصِي ؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَرَأَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}.
6)-السّؤال المتعنّت: قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101].
وفي الصّحيحين عن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ )).
والمقصود بالتّحريم في هذا الحديث التّحريم الشّرعيّ، ويلحق به التّحريم الكونيّ من باب أولى.
7)-الاخـتـلاف: ولا أدلّ على ذلك ممّا رواه البخاري عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ )).
وقد جمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذا السّبب والّذي قبله في حديث واحد، ففي الصّحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ! إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ )).
الشّاهد: متى تتفطّن أمّتنا وتعتبر بمصارع الأمم قبلها ؟
يقول ابن القيّم رحمه الله في " بدائع الفوائد "(2/432):
" وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته ؟ فإنّ الله إذا أنعم على عبدٍ بنعمة حفظها عليه ولا يغيّرها عنه، حتّى يكونَ هو السّاعِيَ في تغييرها عن نفسه:{إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}.
ومن تأمّل ما قصّ الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الّذين أزال نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنّما هو مخالفة أمره، وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كلّه من سوء عواقب الذنوب كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها *** فإنّ المعاصـي تزيل النعم
فما حُفِظَت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزّيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربّه، فإنّها نارُ النّعم الّتي تعمل فيها كما تعمل النّار في الحطب اليابس "اهـ.
فإن ألصقْنا تضييق الطيّبات بالحكّام فحسب، فلنتذكّر كلمة السّلف: عُمّالكم أعمالكم.
وتأمّل وصيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الجامعة، وكلمته النّافعة، فيما رواه البخاري عن عبدِ الله بنِ مسْعُودٍ رضي الله عنه قال: قال لنا رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم: (( إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، وَأُمُوراً تُنْكِرُونَهَا !)) قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال: (( أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ )).
( الأثرة ): هي أن يستأثر غيرك بحقّك، ويسلبك إيّاه، وهو أمر واقع لا ينكره أحد ( وَأُمُوراً تُنْكِرُونَهَا ) من تعطيل الشّريعة، وبثّ الرّذيلة !
فما الحلّ ؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: ((أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ )) وهو الطّاعة في المعروف (( وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ )) وهو ما استأثروا به عن العباد.
فإن قيل: إلى متى ؟ فالجواب: ما رواه البخاري ومسلم عن أنسٍ رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً ! فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ )).
وإنّما خصّ الحوض بالذّكر لأنّه مفترق الطّرق بين أهل السنّة وأهل الأهواء.
والله الموفّق لا ربّ سواه.