وانشرح صدر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لذلك عندما رأى رؤيا، ففي الصّحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ لَهَا:
(( أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ - وفي رواية: يجيء بك الملك -، أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، وَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَاكْشِفْ عَنْهَا ! فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ )). [السّرَقة - بفتح الرّاء -: القطعة].
فتزوّجها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل الهجرة بعامين، وقيل: ببضعة عشر شهرا.
ودخل بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في شوال من السّنة الأولى للهجرة، وقيل سنة اثنتين منصرفه عليه الصلاة والسلام من غزوة بدر وهي ابنة تسع.
* مكانتها: فصارت بذلك أمّ المؤمنين، وأحبّ النّساء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يتزّوج بكرا غيرها.
ومن فضائلها أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم استأذن أزواجه آخر أيّامه أن يمرّض عندها.
- قالت: يا رسول الله ألا تكنّيني ؟ قال: (( تكنَّيْ بابنك )) - يعني عبد الله بن الزّبير وهو ابن أختها - فكانت تكنّى أمّ عبد الله.
- وهي أفقه نساء الأمّة، بل أفقه نساء الأرض على الإطلاق.
فروت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم علما كثيرا طيّبا مباركا فيه، وعن أبيها، وعن عمر، وفاطمة، وسعد، وحمزة بن عمرو الأسلميّ، وغيرهم.
وروى عنها خلق كثير يُعدّون بالمئات.
بلغت مرويّاتها المسندة ألفين ومائتين وعشرة أحاديث (2210)، اتّفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثا، منها وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستّين.
قال الشّعبي: كان مسروق إذا حدّث عن عائشة قال: حدّثتني الصّدّيقة بنت الصدّيق حبيبة حبيب الله تعالى، المبرّأة من فوق سبع سماوات.
وقال أبو موسى رضي الله عنه: ما أشكل علينا أصحابَ محمّد صلّى الله عليه وسلّم أمرٌ قطّ فسألنا عنه عائشة إلاّ وجدنا عندها منه علما.
وكان قبيصة بن ذؤيب يقول: كان عروة يغلبنا بدخوله على عائشة، وكانت عائشة أعلمَ النّاس، يسألها الأكابر من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم، يسألونها عن الفرائض.
وقال عروة بن الزّبير: ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطب ولا شعر من عائشة.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه النّاس وأحسنَ النّاس رأيا في العامّة.
وقال الزّهري: لو جُمِع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعلم جميع النّساء لكان علم عائشة أفضل.
وفي الصّحيحين قال عمرو بن العاص: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيّ النّاس أحبّ إليك ؟ قال: (( عائشة )). قلت: فمن الرّجال ؟ قال: (( أبوها )).
وفيهما أيضا عن أبي موسى الأشعريّ وغيره عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ )).
ولقد اتّهِمت في عرضها فبرّأها المولى تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات، وأنزل فيها قرآنا يُتلى إلى قيام السّاعة.
وكانت كثيرة الكرم لا تبالي بمتاع الدّنيا:
فعن عطاء قال: بعث معاوية إلى عائشة بطوق من ذهب فيه جوهر قُوِّم مائة ألف، فقسمته بين أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وعن أمّ ذرة - وكانت تغشى عائشة - قالت: بعث إليها ابن الزّبير بمالٍ في غِرارتين، قالت: أراه ثمانين ومائة ألف، فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة فجلست تقسمه بين النّاس، فأمست وما عندها من ذلك درهم. فلمّا أمست قالت: يا جارية هلمّي فِطْري. فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أمّ ذرة: أما استطعت ممّا قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه ؟ فقالت لها: لا تعنّفيني، لو كنت ذكّرتني لفعلت.
وعن عروة قال: لقد رأيت عائشة تقسم سبعين ألفاً وهي ترقع درعها.
ذكر نبذة من خوفها من الله تعالى:
ولشدّة كرمها قال عبد الله بن الزبير - كما في صحيح البخاري - حين أعطت عطاء: والله لتنتهين عائشة أو لأحجرنّ عليها ! فبلغها قولُه، فقالت: أهو قال هذا ؟ قالوا: نعم، قالت: لله عليَّ نذر أن لا أكلّم ابن الزّبير أبداً.
فاستشفع ابن الزبير لمّا طال هجرها له، واستعان بعدد من الصّحابة، فذكّروها بأنّه لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، وأنّه لا نذر في معصية، وإن أرادت التّأديب فقد حصل، فطفقت تذكّرهم بنذرها وتبكي وتقول:
" إنّي نذرت، والنّذر شديد !"، فلم يزالوا بها حتّى كلّمت ابن الزّبير. وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتّى تبلّ بدموعها خمارها.
ذكر تعبدها واجتهادها:
قال الزّبير: إنّ عائشة رضي الله عنها كانت تسرد الصّوم.
وعن القاسم بن محمّد قال: كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة أسلّم عليها. فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبّح – أي: تصلّي تطوّعا -وتقرأ: {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، وتدعو وتبكي وتردّدها. فقمت حتّى مللت القيام، فذهبت إلى السّوق لحاجتي، ثمّ رجعت، فإذا هي قائمة كما هي، تصلّي وتبكي.
ومناقبها وفضائلها كثيرة جدّا.
- وفاتها رضي الله عنها:
ذكر غير واحد من أهل العلم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مات وهي بنت ثماني عشرة سنة.
ولمّا حضرتها الوفاة دخل عليها ابن عبّاس رضي الله عنه قال:
أبشري فما بينك وبين أن تلقي محمّداً صلّى الله عليه وسلّم والأحبّة إلاّ أن تخرج الرّوح من الجسد. كنتِ أحبّ نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ إلاّ طيّباً، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء وأصبح الناس ليس معهم ماء فأنزل الله عزّ وجل:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً}، فكان هذا من سببك وما أنزل الله عزّ وجلّ لهذه الأمّة من الرّخصة، وأنزل الله عز وجل براءتك من فوق سبع سموات جاء به الرّوح الأمين، فأصبح ليس مسجدٌ من مساجد الله عز وجل يُذكر فيه الله إلاّ تتلى فيه آناء الليل وآناء النهار.
فقالت: دعني منك يا ابن عبّاس، فوالّذي نفسي بيده لوددت أنّي كنت نسياً منسيّاً.
قال الزّبير بن بكار وغيره: تُوُفّيت في رمضان سنة ثمان وخمسين ( 58 هـ) وصلّى عليها أبو هريرة رضي الله عنه.
وقال هشام بن عروة: ماتت سنة سبع وخمسين (57هـ).
رضي الله عنها وأرضاها.