- المذهب الأوّل: ذهب بعضهم إلى تفضيل خديجة لما ثبت لها من الفضائل الّتي لا تعدّ، والمزايا الّتي لا تحدّ، وحجّتهم في ذلك:
1- أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يجد إلاّ أن يقول فيها حبّا وصدقا ووحيا: (( مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ )). [رواه أحمد]
2- ولم تزل مكانتها في قلبه حتّى غارت منها أمّهات المؤمنين، روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلَائِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ ".
وفي رواية أخرى له أيضا قَالَتْ: " كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: (( إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ )).
- المذهب الثّاني: أكثر أهل السنّة ذهبوا إلى تفضيل عائشة رضي الله عنها، واحتجّوا أيضا بما لا يمكن إحصاؤه ولا استقصاؤه من الأحاديث في فضلها، من ذلك:
1- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
((كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ )) [رواه البخاري ومسلم].
والثّريد هو أفضل الأطعمة لأنه خبز ولحم، كما قال الشاعر:
إذا ما الخُبْـزُ تأدِمُـهُ بلحـمٍ فذاك أمـانـةَ اللهِ الثّـريـــدُ
وذلك أن البرّ أفضل الأقوات، واللّحم أفضل الآدام[1].
فإذا كان اللحم سيّد الآدام، والبرّ سيد الأقوات، ومجموعهما الثريد، كان الثّريد أفضل الطعام.
2- وفي الصّحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: (( عَائِشَةُ ))، فَقُلْتُ: مِنْ الرِّجَالِ ؟ فَقَالَ: (( أَبُوهَا ))، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: (( ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ )) فَعَدَّ رِجَالًا.
3- وفي الصّحيحين حين نزلت آية التّيمّم بسبب ضياع قلادة عائشة رضي الله عنها قال أُسَيْد بن حضيرٍ:" جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا، وَجَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةً ".
ونحن لا نشكّ أنّ الله سيجعل خيرا وبركة من وراء حملة الرّوافض هذه على عرض السيّدة عائشة رضي الله عنها.
4- وفي صحيح البخاري عن عروة بن الزّبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: (( أَيْنَ أَنَا غَداً ؟)) حرصاً على بيت عائشة، قالت عائشة: فلمّا كان يومي سكن. وفي صحيح مسلم قالت: فلمّا كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري.
5- وفي صحيح البخاري عنه أيضا قال: كان النّاس يتحرّون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أمّ سلمة، فقلن: يا أمّ سلمة، والله إنّ النّاس يتحرّون بهداياهم يوم عائشة، وإنّا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر النّاس أن يُهدُوا إليه حيث ما كان أو حيث ما دار، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، قالت: فأعرض عنّي، فلمّا عاد إليّ ذكرت له ذاك، فأعرض عنّي، فلمّا كان في الثّالثة ذكرت له، فقال: (( لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا )).
فما عسى أن يكون مصير من آذى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أحبّ نسائه إليه ؟!
6- وقال صلّى الله عليه وسلّم لفلذة كبده فاطمة رضي الله عنها: (( أَيْ بُنَيَّةُ، أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ ؟)) فقالت: بلى، قال: (( فَأَحِبِّي هَذِهِ )). فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجعت إلى أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبرتهنّ بالّذي قال لها، وقالت: والله لا أكلمه فيها أبداً.
7- وفي الصّحيحين عن عائشة في حديث أمّ زرع الطّويل، أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال لها: (( كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ )).
8- وفي سنن التّرمذي عن عائشة: أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى النيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ( إِنَّ هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ).
الوجه الثّاني: قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا )) لا يدلّ على تفضيلها على عائشة بإطلاق، وإنّما معناه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " منهاج السنّة ":
" ... أنّ خديجة نفعته في أوّل الإسلام نفعاً لم يقم غيرها فيه مقامها، فكانت خيراً له من هذا الوجه، فكونها نفعته وقت الحاجة، لكن عائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين، فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلاّ أوّل زمن النبوّة، فكانت أفضل بهذه الزيادة، فإنّ الأمّة انتفعت بها أكثر ممّا انتفعت بغيرها، وبلغت من العلم ما لم يبلغه غيرها "اهـ.
وكلّ من قرأ سيرة هذه السيدة العظيمة رضوان الله عليها أدرك مبلغ العلم الذي بلغته، ولا عجب في ذلك فقد حرص المصطفى عليه الصلاة والسلام على تثقيفها وتعليمها وهي التي ترعرعت في مهبط الوحي ومنبع العلم.
وكان أكابر الصّحابة يرون علم عائشة قد بلغ ذروة الإحاطة والنضج في كل ما اتصل بالشّريعة من قرآن، وحديث، وتفسير، وفقه، وغير ذلك.
وكانوا إذا أشكل على أهل الأمصار أمر من الأمور، يكتبون إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحجاز يسألونهم عن حكم الله في ذلك، فكان عمر بن الخطاب يحيل عليها رضي الله عنها كل ما تعلق بأحكام النساء أو بأحوال النبيّ الخاصّة، لا يضارعها في هذا الاختصاص أحد من النساء على الإطلاق.
وقد سجّل العلماء لها استدراكات علميّة كثيرة على علماء الصّحابة، حتّى ألّف الإمام الزّركشيّ كتابا يجمع فيه ذلك سمّاه:" الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصّحابةِ ".
ورجع إلى قولها كبار الصّحابة كأبي بكر، وعمر، وابنه، وأبي هريرة، وابن عبّاس، وابن الزّبير، حتّى قال أهل العلم: قد نُقِلَ عنها وحدها ربع الشّريعة. [انظر: " عائشة والسياسة " لسعيد الأفغاني ص21-22)].
وإليك بعض شهادات الصحابة والتّابعين الّتي تدلّ على سعة علمها رضي الله عنها:
1- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ما أشكل علينا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً [رواه التّرمذي بسند صحيح].
2- وقيل لمسروق: هل كانت عائشة تحسن الفرائض ؟ قال: والله، لقد رأيت أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم الأكابر يسألونها عن الفرائض.
3- وكان عُروة يقول لعائشة: يا أمَّتاه، لا أعجب من فقهك، أقول: زوجة نبي الله، وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس. ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو ومن أين هو ؟
4- وقال معاوية رضي الله عنه: والله ما سمعت قط أبلغ من عائشة، ليس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، [أي: إلاّ رسول الله].
5- وعن موسى بن طلحة قال: ما رأيت أحداً أفصح من عائشة. [رواه التّرمذي وهو صحيح]
6- وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة.
7- وقال الزّهري: لو جُمِعَ علم عائشة إلى علم النساء، لكان علم عائشة أفضل.
ومن أراد الاستزادة فلينظر: " سير أعلام النبلاء " (2/179-189).
قال شيخ الإسلام رحمه الله في " منهاج السنّة " (4/164):
" فخديجة كان خيرها مقصوراً على نفس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لم تُبَلِّغ عنه شيئاً، ولم تنتفع بها الأمّة كما انتفعوا بعائشة، ولا كان الدّين قد كمل حتىّ تعلمه ويحصل لها من كمال الدّين به ما حصل لمن علمه وآمن به بعد كماله، ومعلوم أنّ من اجتمع هَمُّه على شيء واحد كان أبلغ فيه ممّن تفرَّق همُّه في أعمال متنوعة، فخديجة رضي الله تعالى عنها خير له من هذا الوجه، ولكن أنواع البر لم تنحصر في ذلك.
ألا ترى أنّ من كان من الصحابة أعظم إيماناً وأكثر جهاداً بنفسه وماله، كحمزة وعليّ وسعد بن معاذ وأسيد بن حُضير وغيرهم، هم أفضل ممّن كان يخدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وينفعه في نفسه أكثر منهم، كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما.
وفي الجملة: الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه، لكنّ المقصود هنا أنّ أهل السُّنة مُجمعون على تعظيم عائشة ومحبّتها، وأنّ نساءه أمّهات المؤمنين اللاّتي مات عنهنّ كانت عائشة أحبّهنّ إليه، وأعلمهنّ، وأعظمهنّ حُرمة عند المسلمين "اهـ.
الوجه الثّالث: مذهب المحقّقين من أهل العلم أنّ ( في مسائل التّفضيل ينبغي التّفصيل )، و( باختلاف الاعتبارات تزول المشكلات ).
ومن الأمثلة على ذلك: لو سألك سائل: من أوّل من أسلم ؟
فقل: أوّل من أسلم من الرّجال أبو بكر، ومن النّساء خديجة، ومن الشّباب عليّ، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن أهل الكتاب: ورقة بن نوفل، وبهذا تكون قد فضّلتهم جميعا باعتبارات مختلفة.
ومن الأمثلة أيضا ما ذكره ابن القيّم رحمه الله في " بدائع الفوائد " (3/683) في المفاضلة بين عائشة وفاطمة رضي الله عنهما، فقال:
" الخلاف في كون عائشة أفضل من فاطمة، أو فاطمة أفضل:
إذا حُرِّر محلّ التّفضيل صار وفاقا، فالتفضيل بدون التّفصيل لا يستقيم.
فإن أريد بالفضل: كثرة الثّواب عند الله عزّ وجلّ، فذلك أمر لا يطّلع عليه إلاّ بالنص ...
وإن أريد بالتفضيل: التفضّل بالعلم، فلا ريب أنّ عائشة أعلم وأنفع للأمّة وأدّت إلى الأمّة من العلم ما لم يؤدّ غيرها واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها.
وإن أريد بالتفضيل: شرف الأصل، وجلالة النسب، فلا ريب أنّ فاطمة أفضل، فإنّها بضعة من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وذلك اختصاص لم يشركها فيه غير إخوتها...
وإذا ثبتت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم وعدل، وأكثر النّاس إذا تكلّم في التفضيل لم يفصّل جهات الفضل ولم يوازن بينهما فيبخس الحقّ ..." اهـ.
حتّى قال رحمه الله:
" وإذا تأمل الفاضل اللّبيب هذا الجواب وجده شافيا كافيا ... فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة ".
ونختم مقالتنا هذه بما رواه الإمام أحمد أنّ ابن عبّاس رضي الله عنه استأذن على عائشة، فلمّا أذنت له، قال:
" ما بينك وبين أن تلقي الأحبة، إلا أن يفارق الروح الجسد، كنت أحبّ أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، ولم يكن يحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا طيباً، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فنزلت فيك آيات من القرآن، فليس مسجد من مساجد المسلمين إلا يتلى فيه عذرك آناء الليل وآناء النهار."
قالت: دعني من تزكيتك يا ابن عباس، فوالله لوددت أنّي كنت نسيا منسيّا !.
والله أعلم.
[1]- هناك حديث رفع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذكره السيوطي في " الجامع الصغير " ونصّه: "سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم ..."، قال الشّيخ الألباني رحمه الله في " ضعيف الجامع الصغير " (3/230):" ضعيف جداً ".
وروي موقوفا على أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو ضعيف أيضا كما قال العجلوني في " كشف الخفاء " (1/461-462).