- ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها قَالَتْ: ( نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ ).
* وذهب أبو حنيفة ومالك في رواية عنهما، واختاره بعض أتباع مذهبهما: أنّ أكل الخيل محرّم.
وفي رواية عنهما أنّ أكله مكروه كراهة تنزيه.
* أدلّة المانعين:
وقد استدلّ المانعون ببعض الأحاديث الضّعيفة الّتي لا تصحّ، فلا داعي لذكرها وبيان ضعفها، وقد ذكر المحقّقون أنّ كلّ حديث فيه النّهي عن أكل لحوم الخيل فهو لا يصحّ.
وأقوى ما استدلّوا به دليلان اثنان:
الأوّل: هو قوله تعالى:{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ } [النحل:8].
قالوا: والاستدلال بها من وجوه ثلاثة:
- أنّ الآية سيقت مساق الامتنان، وهو تعالى يمنّ علينا بأنّ منفعتها للعباد الرّكوب والزّينة، ولا يمكن أن يمتنّ الله بأدنى النّعم، فلو كان أكلها مباحا لامتنّ به لأنّ أكلها أعظم.
- أنّه جعل العلّة في خلق الخيل الرّكوب والزّينة، ومفهوم العلّة يفيد الحصر، وأيدّوا مفهوم العلّة بما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ:
فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ وَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ أَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ.
وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَسِتْرًا وَتَعَفُّفًا، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا، فَهِيَ لَهُ كَذَلِكَ سِتْرٌ.
وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ وِزْرٌ )).
قالوا: هذا الحديث يفيد أنّها لا تستعمل إلاّ في ما ذكر.
- أنّ الله عطف البغال والحمير علي الخيل فدلّ على اشتراكها في الحكم وهو التّحريم.
الثّاني: قول الله تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [الأنفال: من الآية60]
قالوا: إنّ القول بجواز أكلها يُفضي إلى إتلافها، وذلك يُذهب الانتفاع بها في الجهاد في سبيل الله.
* الجواب عن أدلّة المانعين:
أوّلا: الاستدلال بآية سورة النّحل استدلال ضعيف جدّا، لأنّ الآية مكّية، ولحوم الحمر الأهليّة لم تحرّم إلاّ عام خيبر، لحديث جابر رضي الله عنه السّابق ذكره قَالَ: (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَرَخَّصَ فِي الْخَيْلِ )).
فلم يفهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أصحابه رضي الله عنهم منها التّحريم، ولا دلالة الاقتران، ولا أنّ مفهوم العلّة يفيد الحصر، ولا أنّ الامتنان لا يكون بما هو أدنى وغير ذلك، بل استمرّوا على الأصل وهو الحلّ حتّى عام خيبر حرّمها.
ثانيا: استدلالهم بالامتنان، وأنّه تعالى يمتنّ بما هو أعلى لا بما هو أدنى ضعيف أيضا، لأنّه تعالى امتنّ عليهم بما كانوا يعظّمونه، والعرب كانت تعظّم الخيل للرّكوب والزّينة.
ثالثا: استدلالهم بمفهوم العلّة مردود بإجماع العلماء على جواز الانتفاع بالخيل والبغال والحمير في غير ذلك كالحرث، وجرّ العربات وغير ذلك.
رابعا: استدلالهم بدلالة الاقتران مردود أيضا، لأنّ الصّحيح من أقوال علماء الأصول أنّ الاقتران في النّظم لا يفيد الاقتران في الحكم، فقالوا: إنّ دلالة الاقتران ضعيفة.
خامسا: استدلالهم بأنّ أكلها يُفضي إلى زوال الانتفاع بها في الجهاد مردود أيضا، لأنّ الله تعالى امتنّ علينا بالأنعام وأنّه جعلها حمولة وفرشا، فقال:{ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } [الأنعام: من الآية142] وقال:{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [النحل:7] فمع كونها يُنتفع بها في الحمولة، أباح أكلها، فكذلك الخيل.
تنبيه: قد يقول قائل:
إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أباحها لهم عام خيبر رخصة من أجل المخمصة !
وهذا ضعيف جدّا، لأنّه لو كان رخصة لكانت الحمر الأهليّة أولى بذلك لكثرتها وعزّة الخيل، ولكنّنا نراه صلّى الله عليه وسلّم في العام الّذي حرّم الحمر أباح الخيل.
والله أعلم.