( خـزر )
من الألفاظ الشّائعة، والكلمات الذّائعة بيننا كلمة ( خْزَرْ )، ويقصدون بها النّظر، بل غالبا ما يريدون بها تدقيق النّظر والتأمّل، أو النّظر بطرف العين.
وهو كذلك في لغة العرب، فقال ابن منظور رحمه الله:" الخَزَرُ - بالتحريك-: كسْرُ العين بَصَرَها خِلْقَةً "، أي: من كانت حدقته منكمشة بأصل الخلقة، وقريب منه قول ابن الأثير رحمه الله في " النّهاية ": " ضِيقُ العين وصغَرُها ".
وقال إمام اللّغويّين الخليل الفراهيدي في " العين ": " والخُزْرةُ: انقلاب الحَدَقة نحو اللِّحاظ، وهو أقبح الحَوَل، قال:
( إذا تَخازَرْتُ وما بي من خَزَرْ*** ثم كَسَرْتُ العَيْنَ من غَيْرِ عَوَرْ )[1]
وخَزَرْتُ فلانا خَزْراً: نظرت إليه بلحاظ عيني " اهـ.
وأضاف ابن منظور قائلا: وقيل هو النظر الذي كأَنه في أَحد الشَّقَّينِ ". وذكر أقوالا غير ذلك، منها: " أَن يكون الإِنسان كأَنّه ينظر بمُؤْخُرِها[2]، قال حاتم:
( ودُعيـتُ في أُولـى النَّدِيِّ ولم *** يُنْظَـرْ إِلَـيِّ بِأَعْيُـنٍ خُـزْرِ ) "[3].
وتَخازَرَ الرجلُ إِذا ضَيَّقَ جَفْنَهُ لِيُحَدِّدَ النظر.
الحاصل:
أنّ أصل الخزر هو صغر العين ودقّتها، واستعملته العرب في النّظر بدقّة مع انكماش العين للدّلالة على التّدقيق. والعامّة غالبا ما تستعمل هذه الكلمة بهذا الغرض، إلاّ قلّة يستعملونها بمعنى النّظر مطلقا.
فائدة:
ولعلّ بعض الأحبّة والرّفاق، ممّن يولَعون بعلم الاشتقاق، قد يتساءلون عن علاقة هذا اللّفظ، بالحيوان الغليظ الفظّ: الخنزير ؟
والجواب: أنّه يحتمل أنّه مأخوذ من:
1- ( خنزر )، وهي الغِِلَظُ، والخَنْزَرَةُ عند العرب: الفأْس الغليظة، وهذا وصف لازم للخنزير. ولقد سمّوا العصا الغليظة (خيزران).
2- أو من ( خزر ): لأنّ الخَزَرِ في عينه لازم له أيضا، فهو ينظر بمؤخر عينه.
والله تعالى أعلم.
ومن الكلمات الّتي نسلّط عليها الضّوء في هذه الحلقة:
( خـرط )
من الألفاظ الّتي اشتهرت على ألسنة الجزائريّين لفظة ( خرَط )-بفتح الرّاء- يخرُط - بضمّها في المضارع وكسرها جائز-، ويعنون بها (كذب)، ويقولون: رجل خرّاط أي: كثير الكذب.
وهي لفظة فصيحة، ولكنّ استعمالهم لها بهذا المعنى يحتاج إلى تفصيل.
فيطلق لفظ ( خَرَط ) في لغة العرب على معنيين:
المعنى الأوّل: خرَط بمعنى قَشَر الورَقَ عن الشّجر جذباً له بكفّه، أو حتّ الورق بكفّه، وصورة ذلك: أَن يَقْبِضَ على أَعلى الغصن ثم يُمِرَّ يده عليه إِلى أْسفله ليحُتّ عنه الورق، تقول العرب: خَرَطْتُ العودَ أَخْرُطُه و أَخرِطُه خَرْطاً، أي: قشرته وحتَتُّه.
وخَرِطَ الشجرة يَخْرِطها خَرْطاً: إذا انتزع الورقَ واللِّحاء عنها اجْتِذاباً بكفّه، وفي المثل: ( دُونه خَرْطُ القَتادِ ). والقتاد: نبات ذو أشواك حادّة مثل الإبر مفرده قتادة.
ويضربون هذا المثل لبيان ما يستحيل الوصول إليه، كأنّهم يقولون: من أراد أن يحصل على هذا الأمر فما عليه إلاّ أن يخرُِط القتاد أوّلا، ومن أمثال العوامّ: بُوسْ عينك.
ويقال: خَرِط الرجلُ العُنْقُودَ و اخْتَرَطَه إِذا وضعه في فيهِ وأَخرج عرجونه عارِياً. ووضع بعضهم حديثا أنّ النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَأْكُلُ الْعِنَبَ خَرْطًا[4].
المعنى الثّاني: خَرَطَ بمعنى قال الشّيء من غير علم ليظهر أمام النّاس.
قال أَبو عبيد رحمه الله: الخَرُوط الذي يَتَهَوَّرُ في الأُمور، ويركب رَأْسَه في كلّ ما يريد بالجهل وقلّة المعرفة بالأُمور، كالفرس الخَرُوط الّذي يَجْتَذِبُ رَسَنَه[5] من يد مُمْسِكه ويَمْضِي لوَجْهِهِ ومنه قيل: انْخَرَطَ علينا فلانٌ إِذا انْدَرَأَ عليهم بالقول السيّئ والفعل.
فقد أخذوا هذا الاستعمال من ( الخَرُوط ) وهي: الدابةُ الجَمُوحُ الذي يَجْتَذِبُ رَسَنَه من يد مُمْسِكِه ثم يَمْضي عائراً خارِطاً.
وكان بائع الدابّة يقول: بَرِئْت إِليك من الخِراط أَي الجِماحِ.
الحاصل:
أنّ الكلمة من حيث لفظُها صحيحة، ولكنّها في لغة العرب أضيقُ منها في استعمال العامّية، إذ هي التحدّث عن جهل، أمّا في العامّية فنراهم يطلقونها أيضا على من تعمّد الكذب. ولعلّهم قاسوا ذلك على كلمة ( كذب ) إذ هي في لغة العرب تطلق على القول الخطأ سواء أتعمّده المتحدّث أم لا.
ولنا وقفتان:
- الوقفة الأولى: مع كرم الأوائل.
فلعلّ آباءنا من هذه البلدة - حرسها الله- حين أطلقوا ( الخرّاط ) على المتعمّد للكذب نراهم قد أنزلوه منزلة من ( يهرف بما لا يعرف ) إمّا:
- رحمةً به، وتأليفا لقلبه، فما أرادوا تفسيقه وجرحَه، ولا تعييره وفضحَه، فرموه بالخرط والاختلاط، دون الكذب والافتراء.
- أو من باب حسن الظنّ به، فلأن تحكم على أخيك بالخرط، والوهم والغلط، أولى من قذفه، وتجريحه ونسفه. وما زال العلماء يرتقون في مراتب الفضلاء، فترى أحدهم يقول: فلان ربّما وهِم، أو له أوهام، ودخل عليه كلام في كلام.
- الوقفة الثّانية: ممّا سبق بيانه، فلك أن تبحث - أخي القارئ- عن حكم إطلاق بعضهم هذه الكلمة ( انخراط ) و( انخرط ) على الرّجل ينضمّ إلى جماعة معيّنة، أو حزبٍ، أو غير ذلك ! فما أصدقها من عبارة ! والحرّ تكفيه الإشارة.
والله تعالى أعلم، وأعزّ وأكرم.
[1]/ هذا من الرّجز، وهو لأرطأة بن زفر بن جَزء بن شدّاد أحد بني مرّة، وأمّه سهيّة، كما قال عبد العزيز الميمني في " سمط اللآلي بشرح أمالي القالي" (299). وتتمّته:
( ألفيتني ألـوي بعيـد المستمر ... أحمل ما حملت من خيرٍ وشرٍ )
وأخطأ كلّ من ابن بريّ والدّميريّ رحمهما الله حين نسباه إلى الصّحابيّ الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وبعضهم ينسب الأبيات إلى الطّفيل الغنويّ كما فعل جامع " ديوانه ".
[2]/ مُؤْخِرُ العين على وزن ( مُؤمِن ) وهو ما يلي الصُّدْغَ، ومُقْدِمُها ما يلي الأَنفَ، يقال: نظر إِليه بِمُؤْخِرِ عينه. [انظر " لسان العرب" مادةّ ( أخر )].
[3]/ هذا البيت قاله حاتم الطّائيّ يمدح به بني بدر يوم جاورهم زمن حربٍ قامت بين جديلة وسعد، وكان ذلك في زمان الفساد. [انظر الأبيات في "الأمالي" لأبي عليّ القالي، و"الحماسة" لأبي الحسن البصريّ، و"لباب الآداب" لأسامة بن منقذ].
[4]/ رواه الطّبراني في " المعجم الكبير " عن ابن عبّاس رضي الله عنه، والبيهقي في " شعب الإيمان " عنه وعن أبيه العبّاس رضي الله عنهما، وهو موضوع [انظر " الموضوعات" لابن الجوزي، و" سلسلة الأحاديث الضّعيفة والموضوعة " (108) و" ضعيف الجامع " (4520)].
[5]/ الرّسن: الحبل الّذي تسيّر به الدّابة.