1- الأوّل: هو الحاجة، ويجمع على ( حِوَجٍ )[1]، قال:
لعمري لقد ثبّطتني عن صحابتي *** وعن حُوجٍٍ قِضَّاؤُها[2] من شفائيا[3]
و( التَحَوُّجُ ) هو:" طلب الحاجة بعد الحاجة "، والافتقار[4].
2- الثّاني: هو السَّلامَةُ، تقول العرب: حَوْجاً لَكَ، أي سلامَةً[5]، وهي لغة يمانيّة، يقول الرّجل للرّجل إذا عثر أو عند المصيبة: حوجاً لك[6].
فإذا علمنا أنّ للكلمة أصلا في اللّغة، فبقي أن ننظر في استعمالها عند الفزع والجزع.
أمّا الاستعمال: فإنّ قول النّاس: ( يا حوجي ) هو من باب النُّدبة، والنّدبة - كما عرّفها العلماء -: هي نداء المتفجّع عليه أو المتوجّع منه بـ(وا) أو (يا).
فمن الأوّل قولهم: وا زيداه ! ومن الثّاني قولهم: وا رأساه ![7]
ولكي نفقه هذا الاستعمال فإنّه لا بدّ أن نتذكّر جيّدا أنّ نداء المتوجّع منه إمّا لأنّه محلّ الألم كقولك: وا رأساه ! وارجلاه، أو لأنّه سبب الألم كقولك: واحسرتاه ! ووا مصيبتاه !
فمعنى قولهم:" وا حوجي " يحتمل معنيينِ، هما:
1- الافتقار والحاجة، فكأنّهم يتوجّعون من حاجتهم وافتقارهم ولا حيلة لهم. والعرب تفعل ذلك للدّلالة على عظيم حزنهم، فـ:" إذا قلت: ( وا حزناه ) فكأنّك تناديه وتقول له: احضر حتّى يعرفك النّاس فيعذروني فيك "[8].
2- السّلامة، فكأنّهم يتوجّعون من المصيبة والحسرة، ولكنّهم استعملوا لفظ (الحوج) بمعنى السّلامة تفاؤلا برفع المصاب، وله نظائر في كلام العرب، كتسميتهم الّذي له ميل في رجله بالأحنف، والحنف هو الاستقامة على قول، وكإطلاقهم لفظ السّليم على اللّديغ تفاؤلا بشفائه، وعلى المهلكة مفازة، وعلى الأعمى بصيرا، وغير ذلك.
وإليك - أخي القارئ - فائدة عارضة في معنى ( الحنيف ):
فقد قلت ضمن كلامي السّابق:" والحنف هو الاستقامة على قول "، ذلك لأنّه شاع في تفسير كلمة ( الحنيف ) في قوله تعالى:{أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ونحوه، أنّ الحنيف هو المائل عن الشّرك، ومنهم من لا يذكر غيره.
واستدلّوا على ذلك بأنّ ( الحنف ) هو الميل في الرّجل، ومنه قول أمّ الأحنف ابن قيس:
واللهِ لولا حنفٌ برجله *** ما كان في فتيانكم من مثله
والحقّ أنّه يمكن أن يكون بمعنى المستقيم على التّوحيد، وذلك يستلزم الميل عن الشّرك، وبمعنى الاستقامة فسّره محمّد بن كعب القرظي وعيسى بن جارية "[9].
ولم يذكر الطّبريّ غيرَه، فقال:" وأمّا الحنيف، فإنّه المستقيم من كلّ شيء. وقد قيل: إنّ الرجل الّذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى إنّما قيل له ( أحنف ) نظرا له إلى السلامة، كما قيل للمهلكة من البلاد "المفازة"، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة، وكما قيل للديغ:"السليم"، تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك، وما أشبه ذلك ".اهـ
وقال ابن قتيبة رحمه الله: " الحنف الاستقامة، وسمّي الأحنف على سبيل التفاؤل، كما سمّي اللّديغ سليماً "[10].
( حَـوْز )
- ( حَـاوَزْ ): تستعمل العامّة هذه الكلمة وتريد بها الطّرد والإبعاد، فيقولون: حاوزْته، وحاوزني، بمعنى طردني وأبعدني.
وأصل الكلمة من سير الإبل إذا سارت سيرا رويدا، تقول العرب: حَوَّزَها ساقها سوقاً رُوَيْداً ... ويقال حُزْها، أَي: سُقْها سوقاً شديداً، والأَحْوَزِيّ هو السائق الخفيف، وتَحَوَّز عنه وتَحَيَّزَ إِذا تَنَحَّى، وتَحَوَّزَ له عن فراشه تَنَحَّى.
ومنه الانحياز، إذا ترك القومُ مَرْكَزهم ومَعْركة قتالهم ومالوا إِلى موضع آخر، قال تعالى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16].
فأكثر ما تستعمل العرب هذه الكلمة إنّما هي في التّنحية برفق وأناة، وبذلك ندرك الفرق بين الطّرد والحوز، فالطّرد غالبا يكون بشدّة وقسوة، والحوز يكون رويدا.
ومن أجل ذلك أطلق على امتلاك الشّيء، فقالوا: حُزْتُ السّلعة وحاز المتاع، لأنّ الأمر مبنيّ على السَّوق اللّيّن والضمّ برفق، ومنه قول الله تعالى لعيسى عليه السّلام يوم خروج يأجوج مأجوج: (( فَحَوِّزْ[11] عبادي إِلى الطُّور )) أَي ضُمَّهم إِليه.
الفوائد:
الفائدة الأولى: لعلّك تريد أن تسأل عن المدّ الزّائد في لغة العامّة، فإنّهم لا يقولون: حوِّزه، أو حُزه، ولكنّهم يقولون: حاوزه، ومعلوم أنّ المفاعلة تدلّ على وقوع الفعل من اثنين، وهو غير مراد في كلامهم.
فنقول: ولِمَ لا يمدّون وإنّك لترى كثيرا من المتعلّمين يقولون " الآذان "- الّذي هو الإعلام بدخول وقت الصّلاة- بدلا من الأذان ؟ فاضطرّت العامّة إلى أن يجمعوا "الآذان"- الّتي هي آلة السّمع - جمعا غريبا، ( وَذْنِين ) ! لا جمع ولا مثنّى عند علماء العربيّة، تخاله عند سماعه أَكْلَةً شعبيّة !!
وتسمعهم يقولون: لاحظته، بدلا من لحظته، والفرق واضح، فالملاحظة تقع من اثنين كلّ منهما يلحظ صاحبه، أمّا الملحوظة فمعناها الشّيء الّذي يلحظه المرء ويلفت انتباهه.
وتسمعهم يقولون: ساهمت يريدون بذلك الاشتراك في الشّيء، والصّواب: أسهمت من الإسهام، أمّا (ساهمت) فمعناها إجراء القرعة، ومنه قوله تعالى:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصّافّات: 141]. وغير ذلك.
فربّما كان أوّل من أدخل هذا المدّ طالب علم، اجتهد فقاس على بعض الأفعال الّتي تأتي على وزن ( فاعل ) ومعناها ( فعل )، كقولك: عاقبت اللصّ، وسافرت، قال مكّي بن أبي طالب رحمه الله:" وقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب، قالوا: طارقت النعل، وداويت العليل، وعاقبت اللصّ، والفعل من واحد " اهـ[12].
وفي كلا الحالتين يكون قد جانب الصّواب؛ لأنّ ذلك قليل يحتاج إلى دليل، والله أعلم.
الفائدة الثّانية: من الأسماء الّتي تطلق على الإناث في أرياف بلادنا ( حِيزيّة )، فهل لهذا الاسم تعلّق بما ذكرنا ؟
فنقول: الأصل أن يقال: حوزيّة، بالواو لا بالياء، قال الأَعشى يصف:
إِبلاً حُوزِيَّة طُوِيَتْ على زَفَراتِها *** طَيَّ القَناطِرِ قد نَزَلْنَ نُزُولا
والمعنى: أنّها مُنْقَطِعَة القَرِينِ، إذ انحازت عن الجميع بأوصاف فائقة.
وإنّما قلبوا الواو ياءً، فكسروا ما قبلها.
والله تعالى أعلم وأعزّ وأكرم.
[1] " العين " للخليل، و" المحيط في اللّغة " لابن عبّاد، و" الصِّحاح " للجوهريّ، و" المخصّص" و" المحكم " لابن سيده، و"تهذيب اللّغة" للأزهريّ.
[2] أي: قضاؤها، وهذا الوزن يفيد التّوكيد، كما في قوله تعالى:{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} أي: تكذيبا، قال الفرّاء-كما في "اللّسان"-:" وهي لغة يمانية فصيحة، يقولون: كَذَّبْتُ به كِذَّاباً، وخَرَّقْتُ القميصَ خِرَّاقاً، وكلُّ فَعَّلْتُ فمصدرُه فِعَّالٌ في لغتهم مُشدّدةً ".
[3] " العين "، و" المخصّص "، و" أساس البلاغة "، وغيرها، ولم يعزُه أحد منهم إلى قائل معيّن، وفي " التّهذيب " (5/134) عن الفرّاء أنّه لبعض بني كلاب.
[4] " تهذيب اللّغة "، و" لسان العرب ".
[5] " القاموس المحيط "، و" المخصّص "، و" المحكم " لابن سيده، و" لسان العرب "، و" تاج العروس ".
[6] " الجمهرة " لابن دريد.
[7] " أوضح المسالك " (4/52)، و" شرح ابن عقيل على ألفيّة ابن مالك "، و" شرح الأشموني " (3/167).
[8] " حاشية الصبّان على الأشموني" (3/167).
[9] " تفسير ابن كثير ".
[10] " البحر المحيط " لأبي حيّان، و"تفسير القرطبي"، و" زاد المسير " لابن الجوزي، و" فتح القدير " للشّوكاني.
[11] لفظ مسلم: (( فَحَرِّزْ عِبَادِي )) أي: ضُمّهم واجعله لهم حرزا، وقال القاضي عياض: " وروي ( حوِّز ) -بالواو والزاي- ومعناه: نَحََّهم وأزلهم عن طريقهم إلى الطور " ["شرح النّووي"].
[12] " تفسير القرطبي " عند تفسيره لقوله تعالى:{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}، وقد ذكر ذلك غيرُ واحد في تفسير قوله تعالى:{يُخَادِعُونَ اللهَ}، وفي التمثيل بذلك نظر.