" إنّما ورد الوعيد الشّديد في هذه الأشياء لما فيها من الغشّ والخِداع، ولو رُخِّص في شيء منها لكان وسيلة إلى استجازة غيرها من أنواع الغشّ، ولما فيها من تغيير الخِلقة "اهـ.
ويؤيّد قوله رحمه الله رواية مسلم عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ أنّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قال ذَاتَ يَوْمٍ:" إِنَّكُمْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ زِيَّ سَوْءٍ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم نَهَى عَنْ الزُّورِ. قال: وَجَاءَ رَجُلٌ بِعَصًا عَلَى رَأْسِهَا خِرْقَةٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه: ( أَلَا وَهَذَا الزُّورُ ) قال قتادة: يَعْنِي مَا يُكَثِّرُ بِهِ النِّسَاءُ أَشْعَارَهُنَّ مِنْ الْخِرَقِ.
وفي الصّحيحين عن حُمَيدِ بنِ عبدِ الرّحمنِ بنِ عوْفٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بن أَبِي سفيانَ رضي الله عنه عَامَ حَجَّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ - وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ كَانَتْ بِيَدِ حَرَسِيٍّ -: ( أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ، وَيَقُولُ: (( إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ ))[1].
والحديث يدلّ على أنّه لم يكن معروفا لديهم ذلك، قال سعيد بن المسيب: " ما كنت أرى يفعل ذلك إلاّ اليهود ".
- ولقد شدّد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في تحريم هذا النّوع من التّدليس وتغيير خلق الله حتّى لم يُجِز لمن تساقط شعرها نتيجة المرض أن يُوصل بها شعر آخر، ولو كانت عروسا تزفّ إلى زوجها.
فقد روى البخاري ومسلم عن عائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ جَارِيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ تَزَوَّجَتْ، وَأَنَّهَا مَرِضَتْ، فَتَمَعَّطَ شَعَرُهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَصِلُوهَا، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: (( لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ )).
ورويا أيضا عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ رضي الله عنها فقالتْ: إِنِّي أَنْكَحْتُ ابْنَتِي، ثُمَّ أَصَابَهَا شَكْوَى، فَتَمَرَّقَ رَأْسُهَا، وَزَوْجُهَا يَسْتَحِثُّنِي بِهَا، أَفَأَصِلُ رَأْسَهَا ؟ فَسَبَّ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم الوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ.
قال الحافظ وغيره:" في هذا الحديث ردّ على من قال: إن فعلته بإذن الزّوج جاز ".
إنّما أجاز العلماء وصل الشّعر بالخِرق والخيوط الملوّنة بالشّعر ونحو ذلك، فلا تُعدّ وصلا، قاله الشّافعيّ في "الأمّ" (1/54)، والقرطبي (5/252)، والنّووي (14/105-107) رحمهم الله.
ويؤيّد قولهم ما رواه أبو داود بسند صحيح عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ قال:" لَا بَأْسَ بِالْقَرَامِلِ ".
قال أبو داود رحمه الله في " سننه ":
" كأنّه يذهب إلى أنّ المنهيّ عنه شعورُ النّساء، قال: كان أحمد يقول: القرامل ليس به بأس. [والقرامل: جمع قرمل - بفتح القاف وسكون الرّاء -: نبات طويل الفروع لين، والمراد به هنا: خيوط من حرير أو صوف يعمل ضفائر تصل به المرأة شعرها].
والله أعلم وأعزّ وأكرم.
[1] (القصّة): الخصلة من الشّعر، وفي رواية سعيد بن المسيب " كبّة ".
و(الحرسيّ)- بفتح الحاء والرّاء - نسبة إلى الحرس، وهم خدم الأمير الذين يحرسونه.
وقوله: ( أين علماؤكم ؟) أراد بذلك إحضارهم ليستعين بهم على ما أراد من إنكار ذلك، أو لينكر عليهم سكوتَهم عن إنكارهم هذا الفعل قبل ذلك.