2- ثانيا: فضل السّجود لله عزّ وجلّ.
فالسّجود للمولى تبارك وتعالى من أعظم وأجلّ العبادات، ويوضّح ذلك:
أ) أنّ الله سبحانه أثنى على السّاجدين، وجعله من أخلص صفات المؤمنين، فقال عزّ وجلّ:{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112].
ب) وخصّه سبحانه بالذّكر من بين أنواع العبادات، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77].
ج) بل صار السّجود يُطلق على الصّلاة، كما في قوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:40]، أي أدبار الصّلوات، ويقال عن تارك الصّلاة: إنّه لا يسجد لله.
د) أنّ الله عزّ وجلّ سيميّز بالسّجود يوم القيامة بين المؤمنين والمنافقين؛ حيث قال تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} [القلم].
وفي الصّحيحين – واللّفظ للبخاري – عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا )).
هـ) وممّا زاده تعظيما، وشرفا وتفخيما أنّ الله تعالى شرعه عند المرور بآيات يذكر فيها السّجود.
و) أنّه أعظم ما يتسلّح به المؤمن:
حيث قال تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم وهو في حربه مع أبي جهل:{كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا )).
وقال صلّى الله عليه وسلّم: (( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ )) [رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه].
ز) أنّ السّجود مكفّر للخطايا والذّنوب، وسبب لرفع الدّرجات في الجنّة:
فقد جاء في صحيح مسلم عن مَعْدانَ بن أبي طلحةَ اليعمرِيّ قَالَ: لقيت ثوبانَ مولَى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ ؟ أَوْ قَالَ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ- فسكت، ثمّ سألته، فسكت، ثمّ سألته الثّالثة، فقال: سألت عن ذلك رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: (( عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً )).
قال معدان: ثمّ لقيتُ أبا الدّرداء رضي الله عنه فسألته، فقال لي مثل ما قال لي ثوبانُ.
ح)أنّه من أعظم ما يُحزِن الشّيطان الرّجيم:
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ وَفِي رِوَايَةِ:-يَا وَيْلِي- أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِي النَّارُ )).
3- ثالثا: حكم سجود التّلاوة.
أجمع أهل العلم على مشروعيّة سجود التّلاوة داخل الصّلاة وخارجها، للقارئ والسّامع، وذلك في خمسة عشر موضعا من القرآن الكريم، –وعلى قول: أربعة عشر-.
ولكنّهم اختلفوا في وجوبه على قولين:
أ) فذهب الحنفيّة رحمهم الله إلى وجوبه.
ب) وذهب الجمهور إلى استحبابه، وهو الصّحيح إن شاء الله.
بدليل ما رواه البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:" قرأت على النّبي ّ صلّى الله عليه وسلّم {وَالنَّجْمِ}، فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا ".
وروى البخاري أيضا أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة (النّحل) حتّى إذا جاء السّجدةَ، نزل فسجد، وسجد النّاس، حتّى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتّى إذا جاء السّجدة قال: يا أيّها النّاس ! إنّا نمرّ بالسّجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه". وقال في رواية:" إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء".
والمتأمّل يدرك أنّه إجماع من الصّحابة رضي الله عنهم.
4- رابعاً: هل يكبّر عند السّجود ؟
خلاف، فالجمهور على مشروعيّة التّكبير عندها، واستدلّوا:
أ) بما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ علينا القرآن، فإذا مرّ بالسّجدة كبّر وكبّرنا، وسجد وسجدنا ).
ب) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( إذا قرأت سجدة فكبّر واسجُد، وإذا رفعت رأسك فكبّر ).
ج) عموم النصّ، وهو ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه كان يصلّي بهم، فيكبّرُ كلّما خفض ورفع، فإذا انصرف قال: (إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ).
والصّواب ترك التّكبير عند سجود التّلاوة، لعدم نهوض الأدلّة للقول بذلك.
والجواب عمّا استدلّ به الجمهور:
أ) أمّا دليلهم الأوّل -وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما- فضعيف، لأجل عبد الله بن عمر بن حفص [توفّي في منتصف القرن الثّاني].
ب) وأمّا أثر ابن مسعود رضي الله عنه، فلا يعرف.
والحديث الضّعيف كعدمه.
ت) أمّا الاستدلال بالتّكبير عند كلّ خفض ورفع، فيحمل على الخفض والرّفع المعتاد في الصّلاة، والقاعدة المقرّرة: (أنّ كلّ نصّ عام لم يجرِ العمل به على عمومه فلا يؤخذ به)، والتّكبير عند سجود التّلاوة ممّا تتوفّر الهمم والدّواعي لنقله، كما نقلوا تفاصيل صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
5- خامساً: الذّكر عند سجود التّلاوة.
فنظرا لاختلاف أهل العلم في سند بعض أحاديث الباب، فإنّهم اختلفوا على قولين:
أ) فريق من أهل العلم ذهب إلى ضعف هذه الأحاديث والآثار، فقال: يقال فيها ما يقال في السّجود عادةً.
ب) وفريق صحّح هذه الأحاديث فقال بها، منها:
- ما رواه التّرمذي وابن ماجه وابن حبّان في "صحيحه" -واللّفظ له- عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:
" جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فرأيت كأني قرأت سجدة، فرأيت الشَّجَرَةَ تسجد لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ ساجدة وهي تقولُ:
( اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاقْبَلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَ مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ ).
قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنه: فَرأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَرَأَ السَّجْدَةَ، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ ساجِدٌ يَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ الرَّجُلُ عَنْ كلامِ الشَّجَرَةِ.
[حسّنه التّرمذي، والألباني في " صحيح التّرغيب والتّرهيب" (1441)].
- وعضّدوه بما رواه أبو يعلى والطّبراني عن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال:
رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي تَحْتَ شَجَرَةٍ، وَكَأَنَّ الشَّجَرَةَ تَقْرَأُ {صَ}، فَلَمَّا أَتَتْ عَلَى (السَّجْدَةِ) سَجَدَتْ، فَقَالَتْ فِي سُجُودِهَا: ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي بِهَا، اللَّهُمَّ حُطَّ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَأَحْدِثْ لِي بِهَا شُكْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَ مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ سَجْدَتَهُ ).
قال: فَغَدَوْتُ عَلَى رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرتهُ، فقال: (( سَجدْتَ يَا أَبَا سَعِيدٍ ؟)). قال: قلت: لاَ. قال: (( فأَنْتَ أَحَقُّ بِالسُّجُودِ مِنَ الشَّجَرَةِ )).
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم سورَةَ {صَ}، ثمّ أتى السّجدة فسَجدَ، وقال فِي سُجُودِهِ مَا قَالَتِ الشَّجَرَةُ فِي سُجُودِهَا.
[وفي سنده مقال، وحسّنوه بما قبله كما في " السّلسلة الصّحيحة " (فانظر "الصّحيحة" (2710)].
6- سادساً: وهل يشترط له الوضوء ؟
والبحث فيمن قرأ عن ظهر قلب، لا من المصحف، لأنّ الوضوء لمسّ المصحف واجب على الصّحيح.
فمن قرأ من غير المصحف، ومرّ بآية سجدة، استحبّ له أن يسجد ولو من غير وضوء، لعدم ثبوت الأمر به.
ومن استدلّ بكونه جزءا من الصّلاة فيشترك له الوضوء، فقد أبعد، لأنّ التّكبير والتّسبيح وغير ذلك من الأذكار من أجزاء الصّلاة ولا يجب لها الوضوء.
والله أعلم وأعزّ وأكرم، وهو الهادي للّتي هي أقوم.