1- الشّرط الأوّل: الإحصان:
وهذا شرط نصّت عليه الآية، حيث قال عزّ وجلّ:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: من الآية5]، والمقصود بالإحصان هنا: العفّة والحرّية.
ويدلّ على ذلك أيضا القياس الأولويّ، فإذا كان كلّ من هذين الشّرطين يشترطان في نكاح المسلمة، فمن باب أولى اشتراطهما في غيرها:
قال تعالى في اشتراط العفّة في نكاح المسلمة:{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، فلا يُتسامح في هذا الشّرط بحال من الأحوال، لا مع المسلمة ولا مع غيرها.
وقال تعالى في اشتراط الحرّية في نكاح المسلمة:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات} [النّساء: من الآية25].
وإنّما اشتُرطت الحرّية في نكاح المسلمة؛ لأنّ ذلك يُفضي إلى أن يصير ابنها عبدا تابعا لها، فيملكه مالكها، والشّرع متشوِّفٌ إلى العتق كما هو معروف[1].
وهذا الشّرط يتسامح فيه مع الأمة المسلمة إذا لم يستطع المسلم نكاحَ الحرّة، وخشي على نفسه العنت.
وممّن فسّر الإحصان بالعفّة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقد أخرج البيهقيّ في " سننه " (7/172) وابن أبي شيبة في "المصنّف" (3/474) عن أبي وائل قال: تزوّج حذيفة رضي الله عنه يهوديّة، فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن يفارقها، فقال: ( إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَدَعُوا المُسْلِمَاتِ، وَتَنْكِحُوا المُومِسَاتِ ).
وقال أبو عبيدة رحمه الله: يعني العواهر.
وقال الشّعبي رحمه الله في قوله تعالى:{وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}:" إحصان اليهوديّة والنّصرانية: أن تغتسل من الجنابة وأن تحصن فرجها.." [ " أحكام القرآن " للجصّاص (2/324) ].
وممّن قال بذلك أيضا: السدّي، ومجاهد، وسفيان رحمهم الله.
2- الشّرط الثّاني: ألاّ تكون في دار الحرب وما شابهها [وما يشبه دار الكفر هي البلاد الّتي يسود فيها حكم الكافرين]:
وإنّ آية المائدة الّتي دلّت على جواز نكاح المسلم للكتابية، لم تفرّق بين أن يتزوّجها في دار الإسلام أو في دار الحرب.
ولكن دار الكفر تختلف عن دار الإسلام، من وجوه كثيرة، منها:
- أنّ الحكم والسّلطة في دار الإسلام للمسلمين الّذين هم أهل الحلّ والعقد، يحكمون بشريعة الله التي أنزلها عزّ وجلّ في كتابه وفي سنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
- أنّ دار الإسلام تظهر فيها شعائر الدّين، واحتمال ميل الزوجة إلى دين زوجها المسلم وارد جدّا.
- كما أن احترامها لآداب الإسلام، وعدم مجاهرتها بما يخالفها أقرب؛ إرضاءً لزوجها الذي يغيظه مخالفة دينه في الأخلاق وارتكاب المحرمات.
وهذا بخلاف دار الحرب والكفر:
- الّتي تكون الهيمنة والسّيطرة فيها للكفار الّذين هم أهل الحلّ والعقد، والحكم فيها إنّما يكون بقوانينهم الّتي تخالف الإسلام.
- كما أنّ الشّعائر الظّاهرة فيها هي شعائر الكفر، وليست شعائر الإسلام، والأخلاق السائدة فيها هي أخلاق الكفار.
- ولهذا تكون الزوجة الكتابية في بلاد الحرب، أكثرَ تمسُّكا بدينها وأخلاقها وعاداتها، وأقلّ ميلا إلى دين زوجها وأخلاقه.
- بل إنه ليُخشَى على زوجها المسلم أن يتأثّر بمُحيط الكفر الّذي يعيش فيه.
- وثالثة الأثافي أنّه يُخشى على ذرّيته من التديّن بدين أمّهم الّتي تربيهم عليه !
وإليك نقولا عن أهل العلم الذين أجازوا زواج المسلم بالكتابية في دار الإسلام فقط، لا في دار الحرب وما شابهها.
1- ذكر القرطبي رحمه الله: أن ابن عبّاس رضي الله عنه سئل عن نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا ؟ فقال: لا يحلّ - وتلا قوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ} إلى قوله تعالى:{وَهُمْ صَاغِرُونَ}، قال الرّاوي عنه: حدّثت بذلك إبراهيم النّخعي فأعجبه - يعني أنّ إبراهيم يقول بالتّحريم كذلك -.
وكره مالك تزوّج الحربيّات، لعلّة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير. اهـ [ الجامع لأحكام القرآن 3/69 ].
ويحتمل أن تكون كراهة الإمام مالك رحمه الله لذلك كراهةَ تحريم.
وبقول ابن عبّاس رضي الله عنه قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وإبراهيم النخعي.
2- المذهب الحنفيّ: قد صرّحت كتب الحنفيّة بكراهة الزواج بالكتابية في دار الحرب، إلا أنّ بعضهم يفسّرون الكراهة بكراهة التحريم، وبعضهم يفسرونها بكراهة التنزيه، ورجّح ابن عابدين رحمه الله أنّ الكراهة هنا كراهة تحريمية، وليست كراهة تنزيه.
["حاشية ردّ المحتار على الدرّ المختار " (3/45)].
وصرّح الدكتور وهبة الزحيليّ في كتابه "الفقه الإسلامي وأدلّته" (7/145) أنّ الحنفيّة يحرّمون الزّواج بالحربية في دار الحرب.
3- المذهب المالكيّ: قال الدّردير رحمه الله في " الشّرح الصّغير " (2/420):
" وتأكد الكره - أي الكراهة - إن تزوّجها بدار الحرب، لأنّ لها قوّةً بها لم تكن بدار الإسلام، فربّما ربّت ولده على دينها، ولم تبال باطّلاع أبيه على ذلك "اهـ.
4- المذهب الشّافعيّ: قال النّووي رحمه الله في " المنهاج " (2/187):" وتحلّ كتابية، ولكن تكره حربية، وكذا ذمية على الصحيح ".
وقال في الحاشية:" لكن الحربية أشدّ كراهة منها ".
5- المذهب الحنبليّ: وبمثل ذلك قال ابن قدامة رحمه الله في " المغني " (9/292-293).
6- وقال ابن القيم رحمه الله في " أحكام أهل الذمّة " (2/420):
" وإنّما الّذي نصّ عليه أحمد رحمه الله، ما رواه ابنه عبد الله، قال: أكره أن يتزوّج الرّجل في دار الحرب، أو يتسرّى من أجل ولده.
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: لا يتزوّج ولا يتسرّى الأسير، ولا يتسرّى بمسلمة، إلاّ أن يخاف على نفسه، فإذا خاف على نفسه لا يطلب الولد "اهـ.
وبهذا يظهر أنّ مذهب الإمام أحمد، أكثر صراحة في تحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، بل لا يبيح له وطء أمته المسلمة أو امرأته في دار الحرب إلاّ للضّرورة، مع توقّي إنجاب الولد.
ويلي مذهب الإمام أحمد في الصّراحة بالتّحريم المذهب الحنفي.
أسباب تحريم العلماء زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب:
والّذي دعا العلماء إلى القول بتحريم زواج المسلم بالكتابيّة في دار الحرب أو كراهته، يتلخّص في أمرين رئيسين:
الأمر الأول: الخوف على ذريّة المسلم الّذين يولدون في دار الحرب مِنْ أن يُرَبُّوا على غير دين أبيهم، فيكون بذلك قد غرس لأعداء الإسلام غرسا يُكْثِرُ به سوادَهم، ويخسر بذلك المسلمون الذين هم أولى بتكثير سوادهم.
ومن المعلوم أنّ من مقاصد النّكاح هو حفظ النّسل الّذي يحقّق عبادة الله عزّ وجلّ القائل:{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذّاريات: 56].
الأمر الثاني: الخوف من اختيار المسلم المقامَ بين ظهراني الكفّار، وخاصّة الحربيّين، لما في ذلك من المفاسد:
المفسدة الأولى: مخالفة الأمر بالهجرة إلى بلاد الإسلام. وفي ذلك تعريض المسلم نفسه لعذاب الله وسخطه، وإذلال نفسه لعدوّه.
المفسدة الثانية: تكثير سواد الكافرين، وتقليل سواد المسلمين، وفي ذلك تقوية للكفار، وإضعاف للمسلمين.
المفسدة الثالثة: تعريض ذرّيته للكفر، أو الاسترقاق حال نُشُوب الحرب.
المفسدة الرابعة: ما قد يتعرض له المسلم من المنكر، ومن ذلك تعاطي المحرّمات الّتي ربّما لم يستطع الإفلات من تعاطيها، ومشاهدة المنكرات الكثيرة التي تجعله يألفها ولا ينكرها قلبه، بل قد يموت قلبه فيرضى بها لكثرتها.
المفسدة الخامسة: ما تمارسه امرأته من منكرات، فقد تمارس أنواعا كثيرة من تلك المنكرات، وقد يميل مع طول الوقت والمعايشة، إلى كثير من تلك المنكرات المخالفة لدينه، إن سلم من الارتداد عنه.
الحاصل:
إنّه سبق أن بيّنّا أنّ زواج المسلم بالكتابية في دار الإسلام مباح مع الكراهة، ومعلوم أنّ المباح إذا أدّى إلى مفاسد تفوق المصلحة من تناوله، غُلِّب جانب المفسدة الراجحة، فيدخل في الحرام من أجل ذلك.
ومفاسد نكاح الكتابية في دار الحرب تفوق المصالح المترتبة عليه كما هو واضح مما تقدم.
فلا غرابة من اشتراط الباحثين والعلماء اليوم شروطا كثيرة في جواز الزّواج من كتابيّة، فهي كلّها مستقاة من تلكم المقاصد الّتي بُثَّت في كتب العلماء القدماء حيث النّقاء والصّفاء، فكيف في عصر ذاعت فيه الفحشاء، ومجملها:
1- التأكّد من كونها من أهل الكتاب.
2- الإحصان.
3- ألاّ تكون حربيّة.
4- الأمن على الأولاد: من الانسلاخ من الدّين، وأكل الحرام.
5- رجاء إسلام تلك المرأة.
6- أن يكون المسلم متين العقيدة.
7- أن يكون مستقيما على تعاليم الإسلام.
وإلاّ، فإنّه آثم بزواجه، واقع فيما حذّر الله عزّ وجلّ منه:{أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: من الآية221].
والله الموفّق لا ربّ سواه.
[1] ولا يُتسامح في هذا الشّرط مع الكتابيّة، لسببين اثنين:
أوّلا: لدخول النّقص عليها من جهتين: من جهة الكفر، ومن جهة الرقّ.
ثانيا: أنّ الأمة المسلمة إذا ولدت يصبح ولدها ملكا لمالكها وهو المسلم، فحتّى لو باعها فإنّه لا يبيعها لكافر، أمّا الأمة الكافرة فيمكن بيعها لكافر، وهناك يدخل الولد تحت ولاية الكافر تبعا لأمّه، والله يقول:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: من الآية141].