قال ابن المنذر:" وقد كان الشّافعي رحمه الله قال بهذا إذ كان بالعراق، ثمّ وقف عنه بمصر، وقال: هذا ممّا أستخير الله فيه ".
- أدلّة القول الأوّل:
استدلّ أصحاب هذا القول بالنّظر، وبعضٍ من الأثر.
1- أمّا النّظر: فكما قال ابن القيّم رحمه الله في " أعلام الموقّعين "، وابن تيمية رحمه الله في " تفسير آيات أشكلت " وجمهور العلماء: أنّ الله تعالى ما أوجب الزّكاة إلاّ في المال القابل للنّماء والزّيادة، وحُلِيّ الذّهب والفضّة أشبهت المتاع المستقرّ.
2- أمّا من الأثر: فاستدلّوا ببعض الأحاديث المرفوعة، لكنّها ضعيفة كما في " إرواء الغليل " للشّيخ الألبانيّ رحمه الله.
وأقوى ما استدلّوا به ما أخرجه التّرمذي عن زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنها قالت: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
(( يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ )).
قال ابن العربي رحمه الله:" هذا يوجب بظاهره أن لا زكاة في الحُليّ، ولو كانت واجبة لما ضرب المثل به في صدقة التطوّع ".
يقصد رحمه الله: أنّه لا يقال مثلاً: تصدّق ولو من الإبل السّائمة؛ لأنّ الزّكاة في الإبل السّائمة واجبة ابتداءً، وإنّما يقال مثل ذلك فيما لا تجب فيه الزّكاة.
- واستدلّ أبو عُبيد بكتاب أبي بكر الصّديق رضي الله عنه حيث قال: ( وفي الرِّقَة ربع العشر ).
ووجه الدّلالة: أنّ الرِّقة هي الوَرِق، أي: الفضّة إذا ضرِبت عليها السكّة وصارت عُملةً ونقداً، فهنا تجب الزّكاة بلا خلاف، ولو كانت الزّكاة واجبة في حليّ الفضّة لقال: وفي الفضّة ربع العشر.
- القول الثّاني: وجوب زكاة الحُليّ، وهو قول عائشة - في رواية -، وعمر، وابن عبّاس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم. وبه قال سعيد بن جبير، وابن المسيّب، وعطاء، ومجاهد، وعبد الله بن شدّاد، وجابر بن زيد، وميمون بن مهران، والزّهري، والثّوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة.
- أدلّة القول الثّاني:
واستدلّ هؤلاء بما يلي:
1- عموم النّصوص من الكتاب والسنّة. فالحُليّ داخلة في الأموال من قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}.
2- ما رواه أحمد وأبو داود - واللّفظ له - عن عبدِ الله بن عمرو رضي الله عنه: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا، وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ[1] غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهَا: (( أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا ؟ )) قَالَتْ: لَا. قَالَ: (( أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟)).
قال: فَخَلَعَتْهُمَا، فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَقَالَتْ: هُمَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ.
ورواه الترمذي والدّارقطني بلفظ:
أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أَتَتَا رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم وَفِي أَيْدِيهِمَا سُوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهُمَا: (( أَتُؤَدِّيَانِ زَكَاتَهُ ؟))، قَالَتَا: لَا. فَقَالَ لَهُمَا رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللَّهُ بِسُوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟)) قَالَتَا: لَا. قَالَ: (( فَأَدِّيَا زَكَاتَهُ )).
قال الخطّابي رحمه الله في قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟!)):" إنّما هو تأويل قوله عزّ جلّ:{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ}" اهـ.
3- ما رواه أبو داود والدّارقطني عن عائشةَ رضي الله عنها قالت:
دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَرَأَى فِي يَدَيَّ فَتَخَاتٍ[2] مِنْ وَرِقٍ، فَقَالَ: (( مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟)) فَقُلْتُ: صَنَعْتُهُنَّ أَتَزَيَّنُ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: (( أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ ؟)) قُلْتُ: لَا، أَوْ مَا شَاءَ اللهُ. قَالَ: (( هُوَ حَسْبُكِ مِنْ النَّارِ )).
قِيلَ لِسُفْيَانَ الثّوري: كَيْفَ تُزَكِّيهِ ؟ قَالَ: تَضُمُّهُ إِلَى غَيْرِهِ.
قال الخطّابي في معالم السّنن (3/176):" والغالب أنّ الفتخات لا تبلغ بانفرادها نصابا، وإنّما معناه: أن تضُمّ إلى بقيّة ما عندها من الحُليّ، فتُؤدّي زكاتها فيه "اهـ.
4- ما رواه أحمد بإسناد حسن عن أسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قالت:
دَخَلْتُ أَنَا وَخَالَتِي عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَعَلَيْنَا أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَنَا: (( أَتُعْطِيَانِ زَكَاتَهُ ؟)) فَقُلْنَا: لَا. قَالَ: (( أَمَا تَخَافَانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللَّهُ أَسْوِرَةً مِنْ نَارٍ ؟! أَدِّيَا زَكَاتَهُ )).
5- ما رواه النّسائي أنّ ثَوْبَانَ مَوْلَى رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
جَاءَتْ بِنْتُ هُبَيْرَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَفِي يَدِهَا فَتَخٌ، فَقَالَ كذَا، أي:: (( خَوَاتِيمُ ضِخَامٌ ! )). فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَضْرِبُ يَدَهَا، فَدَخَلَتْ عَلَى فَاطِمَةَ تَشْكُو إِلَيْهَا الَّذِي صَنَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَانْتَزَعَتْ فَاطِمَةُ سِلْسِلَةً فِي عُنُقِهَا مِنْ ذَهَبٍ وَقَالَتْ هَذِهِ أَهْدَاهَا إِلَيَّ أَبُو حَسَنٍ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَالسِّلْسِلَةُ فِي يَدِهَا فَقَالَ:
(( يَا فَاطِمَةُ، أَيَغُرُّكِ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: ابْنَةُ رَسُولِ اللهِ وَفِي يَدِهَا سِلْسِلَةٌ مِنْ نَارٍ ؟! ))
ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يَقْعُدْ، فَأَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ بِالسِّلْسِلَةِ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَتْهَا وَاشْتَرَتْ بِثَمَنِهَا غُلَامًا، فَأَعْتَقَتْهُ، فَحُدِّثَ بِذَلِكَ، فَقَالَ:
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْجَى فَاطِمَةَ مِنْ النَّارِ )).
قال الخطّابي رحمه الله في "معالم السّنن" (3/179):
" الظّاهر من الكتاب يشهد لقول من يوجبها، والأثر يؤيّده، ومن أسقطها ذهب إلى النّظر ومعه طرف من الأثر، والاحتياط أداؤها، والله أعلم "اهـ.
وقول الإمام الخطّابي فصل في المسألة إن شاء الله، وهو أنّ زكاة الحُليّ واجبة.
والله تعالى أعلم وأعزّ وأكرم.