- فلا ريب أنّ ماء زمزم ماء مبارك، وأنّه من بركة دعاء إبراهيم عليه السّلام يوم قال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}.
فكان - كما في صحيح البخاري عن ابن عبّاس رضي الله عنه مرفوعا - أن جاء جبريل عليه السّلام ( فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ: بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ، وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنْ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ ).
- وجعل الله حفرها من دلائل نبوّته صلّى الله عليه وسلّم إذ خصّ حفرها أن يكون على يد جدّه عبد المطّلب.
- وممّا يدلّ على بركته وفضله ما جاء في الصّحيحين في حادثة شقّ الصّدر ليلة الإسراء: ( فَشَقَّ جِبْرِيلُ عليه السّلام مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ ).
- وجعلها الله كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمٍ، فِيهِ طَعَامُ الطُّعْمِ[1]، وَشِفَاءُ السُّقْمِ )).
وفي صحيح مسلم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذرّ رضي الله عنه: (( إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ ))، بل تواتر عنهم أنّهم كانوا يسمّونها " شُباعة ".
قال ابن القيّم رحمه الله في "زاد المعاد" (4/393):
" وقد جرّبت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورا عجيبة، واستشفيت به من عدّة أمراض، فبرأت بإذن الله.
وشاهدت من يتغذّى به الأيّام ذواتِ العدد قريبا من نصف الشّهر أو أكثر، ولا يجد جوعا، ويطوف مع النّاس كأحدهم، وأخبرني أنّه ربّما بقي عليه أربعين يوما، وكان له قوّة .. يصوم ويطوف مرارا ".
- وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَاءُ زَمْزَمٍ لِمَا شُرِبَ لَهُ ))[2].
لذا كان السّلف الصّالح يسألون الله تعالى بعد شربه، فعن عبد الله بن المبارك أنّه لمّا حجّ أتى زمزم فقال:" اللّهمّ إنّ ابن أبي الموالي حدّثنا عن محمّد بن المنكدر، عن جابر عن نبيّك صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (( مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ ))، وإنّي أشربه لظمأ يوم القيامة ".
أمّا ما يتعلّق به من أحكام فقهيّة فهناك مسألتان:
المسألة الأولى: حكم التوضّأ منه.
فاختلف العلماء هل يكره الغسل والوضوء من ماء زمزم ؟ وذكروا فيه روايتين عن أحمد، والشّافعيّ، واحتجّوا بأمرين:
- بحديث العبّاس رضي الله عنه: قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (12/600): " وقد كان العبّاس بن عبد المطّلب يقول في ماء زمزم: " لا أحلّه لمغتسل ".
-وبأنّه مبارك.
والصّواب هو الجواز، لما رواه أحمد عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم دَعَا بِسَجْلٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَتَوَضَّأَ.
أمّا قولهم إنّه مبارك فهذا لا يمنع من استعماله للطّهارة، بل هو أولى، وها هو ماء السّماء يقول فيه الله تعالى:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً} [ق: من الآية 9].
فإن ادّعوا أنّ بركته أوكد، فيقال: إنّ الصّحابة توضّؤوا من الماء الّذي نبع من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم مع بركته.
ولضعف هذا الاستدلال قال ابن تيمية رحمه الله:
" والصّحيح أنّ النّهي من العبّاس رضي الله عنه إنّما جاء عن الغسل فقط، لا عن الوضوء، والتّفريق بين الغسل والوضوء هو لأنّ الغسل يشبه إزالة النّجاسة ولهذا يجب أن يغسل في الجنابة ما يجب أن يغسل من النّجاسة، وحينئذ فصون هذه المياه المباركة من النّجاسات متوجِّه، بخلاف صونِها من التّراب ونحوه من الطّاهرات، والله أعلم ".
المسألة الثّانية: حكم حمله خارج مكّة ؟
قد عدّه بعض العلماء من البدع المحدثة، كالإمام الشّقيري المصريّ في "السّنن والمبتدعات"، ولكنّ الصّواب هو جوازه؛ لفعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أوّلا، ولفعل الصّحابة ومن بعدهم ثانيا.
-روى التّرمذي والبخاري في "التّاريخ الكبير" (2/1/173)، والبيهقيّ في "السّنن" (5/202)، وفي "الشّعب" (3/482/4129) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَتُخْبِرُ: (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يَحْمِلُهُ ))[3].
قال في "تحفة الأحوذيّ": " فيه دليل على استحباب حمل ماء زمزم إلى المواطن الخارجة عن مكّة ".
2-وروى الطّبرانيّ في "الكبير" (3/28) بسند حسن عن حبيب بن أبي ثابت قال: سألت عطاء: " أَحْمِلُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ؟ " فقال: " قَدْ حَمَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَحَمَلَهُ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ رضي الله عنهما.
3-وثبت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، فيما رواه البيهقيّ (5/202) أنّه أُتِي بماء زمزم فشرب، فقالوا: ما هذا ؟ قال: هذا ماء زمزم، قال فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَاءُ زَمْزَمٍ لِمَا شُرِبَ لَهُ )). ثمّ قال: " قد أرسل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم-وهو في المدينة-إلى سهيل بن عمرو قبل أن تفتح مكّة: أن أهدِ لنا من ماء زمزم، فبعث إليه بمزادتين ".[4]
الشقّ الثّاني: ما يتعلّق بتمر المدينة.
فالتصبّح بأكل سبع تمرات عجوة من تمر المدينة نافع بإذن الله تعالى، فقد روى البخاري ومسلم عن سَعْدِ بن أبي وقّاص رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ )).
وقد اشترط كثير من أهل العلم في التّمر أن يكون من العجوة لظاهر الحديث.
وذهب آخرون إلى أن لفظ العجوة خرج مخرج الغالب، فلو تصبّح بغيرها نفع بإذن الله، وإن كان تمر العجوة أكثر نفعا وتأثيرا.
والله أعلم.
[1]/ رواه الطّبراني في " الكبير " وهو حسن كما في " صحيح التّرغيب والتّرهيب "، ومعنى الحديث: أنّه يُشبِع الإنسان إذا شرب ماءها كما يشبع من الطّعام، قاله ابن الأثير في " النّهاية ".
[2] رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه، والدّارقطني في " سننه " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وهو حسن كما في "صحيح التّرغيب والتّرهيب " (1164).
[3] والحديث في " الصّحيحة " (رقم 883).
[4] قال الشّيخ الألباني رحمه الله في "الصّحيحة" (2/ص 544): " وإسناده جيّد " ، وقد خرّجه رحمه الله في "الإرواء" (4/321).