وهي ما لم يُقصَد به المثل أصلاً، ولكنّها صارت تجري مجرى الأمثال، وتُذكر في مقام الاستدلال؛ فتدلّ على معنى رائع عزيز، في لفظ ماتع وجيز.
ومن أمثلته قوله تعالى:{لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة من: 68]، فهو يجري مجرى قولنا:" خير الأمور أوسطها ".
ومنه ما سنذكره في هذه المقالة إن شاء الله.
وأحسن ما أُلِّف في هذا النّوع كتاب " الأمثال الكامنة في القرآن الكريم " للحُسين بن الفضل رحمه الله (تـ:282 هـ).
النّوع الثّالث: الأمثال المرسلة.
وهي تشبه الأمثال الكامنة في كونها لا يُصرّح فيها بالمثل، وتجري مجرى المثل، ولكنّ الفرق بينها:
أنّ الأمثال الكامنة تُساق مساق الدّليل على الدّعوى، فهي قريبة من التّشبيه الضّمني.
أمّا المثل المرسل فهو لا يُساق مساق الدّليل، ولكنّه ضربٌ من ضروب الاقتباس.
ومن أمثلته قوله تعالى:{الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ} [يوسف من: 51]، فالمتحدّث له أن يذكر الآية متى تبيّن الحقّ في مسألة ما.
ومنه قوله تعالى:{قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف من: 41]، في الأمر المبتوت.
وعلى المسلم أن يحذر استعمال هذا النّوع من الأمثال في غير مقام الجدّ، فالقرآن الكريم لا بدّ أن يُصان عن مواطن الهزل والمزاح.
سرد الأمثال:
قال ابن الجوزي رحمه الله في " المدهش " (1/17-18):" وكم من كلمة تدور على الألسن مثلاً، جاء القرآن بألخص منها وأحسن ".
فالأمثال الّتي قالتها العرب وإن كانت من البلاغة بمكان، إلاّ أنّها لا تقاس ببلاغة القرآن. فمن هذه الأمثال:
1- " القتل أنفى للقتل ".
هذا المثل يدلّ عليه قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ}، بل إنّ الآية أبلغ من ثلاثة أوجه:
الأوّل: أنّ " القصاص حياة " لفظتان، و" القتل أنفى للقتل " ثلاثة ألفاظ.
الثّاني: أنّ في قولهم " القتل أنفى للقتل " تكرارا ليس في الآية.
الثّالث: أنّه ليس كلّ قتل نافيا للقتل، إلاّ إذا كان على حكم القصاص. [انظر:" المثل السّائر" (2/117)].
2- " ليس الخبر كالعِيان ".
يدلّ عليه قوله تعالى:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
وهذا المثل تكلّم به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ فقد روى أحمد عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ؛ إِنَّ اللهَ عزّ وجلّ أَخْبَرَ مُوسَى عليه السّلام بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِي الْعِجْلِ، فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا أَلْقَى الْأَلْوَاحَ فَانْكَسَرَتْ )) ["صحيح الجامع" (5374)].
3- " ما تزرعْ تحصدْ ".
يدلّ عليه قوله تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران من: 30].
4- " كما تَدينُ تُدانُ ".
يدلّ عليه قوله تعالى:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}.
وقد شاع أنّه حديث ! ولا يصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. [انظر "فتح الباري" (8/156)].
5- " للحيطان آذان ".
يدلّ عليه قوله تعالى:{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، قال مجاهد، وزيد بن أسلم، وابن جرير رحمهم الله: أي: عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم.
وهناك قولٌ آخر مفاده أنّ معنى الآية: وفيكم من يسمع كلامهم فيغترّ به ! وهذا قول قتادة، وهو الظّاهر؛ لذلك ارتضاه ابن كثير رحمه الله.
6- " الحمية رأس الدّواء ".
يدلّ عليه قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا}.
وفي الحديث الصّحيح: (( مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ: فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ ،وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ )) [أخرجه التّرمذي وغيره].
7- " لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين ".
يدلّ قوله تعالى:{هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ}.
وهذا المثل رواه البخاري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال معَاوِيَةُ رضي الله عنه: لا حكِيمَ إلاّ ذُو تجربَةٍ.
8- " خير الأمور أوسطها ".
يدلّ عليه آيات كثيرة، مثل قوله تعالى:{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ}.
بل صارت الوسطيّة من خصائص هذه الملّة الحنيفيّة.
ولا يصحّ نسبة هذا المثل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم [انظر:"المقاصد الحسنة" (205)].
9- " من جهل شيئا عاداه ".
يدلّ عليه قوله تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}، وقوله جلّ ذكره:{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}.
وهذا المثل أيضا لا يصحّ رفعُه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم [انظر:"المقاصد الحسنة" (409)].
ورحم الله الإمام الشّافعيَّ القائل:" العلم جهل عند أهل الجهل، كما أنّ الجهلَ جهلٌ عن أهل العلم "، ثمّ أنشأ يقول:
ومنزلة الفقيه من السّفيـه *** كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهدٌ فِي قُـرب هذا *** وهذا فيه أزهد منه فيـه
["مناقب الشّافعي" للبيهقي].
يتبع إن شاء الله