["فتح الباري" (4/103)، وانظر "المجموع" (6/433-435) للإمام النّوويّ].
وقال الإمام الطّبريّ رحمه الله في " تفسيره ":
" وذلك أنّه لم يأت خبرٌ تَقوم به حُجّة بأنّ صومًا فُرِض على أهل الإسلام غيرَ صوم شهر رمضان، ثمّ نسخ بصوم شهر رمضان ... فمن ادّعى أنّ صومًا كان قد لزِم المسلمين فرضُه غير صوم شهر رمضان الّذين هم مجمِعُون على وجوب صومه - ثم نسخ ذلك -، سئل البرهانَ على ذلك "اهـ.
المذهب الثّاني: أنّ الله فرض صوما قبل صيام رمضان.
وبه قال طائفة من أهل العلم، قالوا: ثمّ نُسخ برمضان.
ولكن ما الأيّام الّتي فرض صومها قبل تشريع صيام رمضان ؟
قولان في ذلك:
أ) الأوّل: أنّها ثلاثة أيّام من كلّ شهر.قال به عطاء رحمه الله؛ مستدلاّ بقوله عزّ وجلّ:{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}.
روى الطّبريّ عن عطاء قال:" كان عليهم الصّيامُ ثلاثةَ أيّام من كلّ شهر، ولم يُسمَّ الشّهرُ أيّاماً معدوداتٍ. قال: وكان هذا صيام النّاس قبل، ثمّ فرض الله عزّ وجلّ على النّاس شهرَ رمضان ".
ب) الثّاني: أنّه يوم عاشوراء. وهو قول الإمام أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد ["بدائع الصّنائع" (2/262)، و"الإنصاف" (3/346)].
واختار هذا القولَ الأثرم رحمه الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ["مجموع الفتاوى" (25/311، 296)، و"شرح العمدة" (2/573)، و"الاختيارات" (164)].
وهو الصّحيح إن شاء الله؛ لما رواه البخاري ومسلم - واللّفظ له - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت:
كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَصُومُهُ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَالَ: (( مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ )).
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم صَامَهُ وَالْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ رَمَضَانُ، فَلَمَّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللهِ؛ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ )).
قال ابن بطّال رحمه الله في "شرح صحيح البخاري" (4/141):
" دلّ حديث عائشة رضي الله عنها على أنّ صومه كان واجباً قبل أن يُفرض رمضان، ودلّ أيضا على أنّ صومه رُدّ إلى التطوّع بعد أن كان فرضا "اهـ.
وثمرة البحث في هذه المسألة تكمُنُ في معرفة المسألة التّالية.
- حكم من دخل عليه رمضان وهو غير عالم، فأصبح مفطِرا.
اعلم أنّ الله تعالى قد علّق الأحكام الشّرعيّة بالعلم والاستطاعة؛ لذلك كان من أدركه رمضان وهو لا يدري، فأصبح مفطرا، ثمّ علِم بأنّه في أوّل يوم من أيّام الشّهر المبارك، فإنّه يمسك بقيّة يومه، ويُتمّ صيامه.
فقد روى البخاري عن سلمةَ بنِ الأكْوعِ رضي الله عنه قال: أَمَرَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ: (( أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ: أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ )).
وفي الصّحيحين عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ رضي الله عنها قالت: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: (( مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ )).
ووجه الدّلالة: أنّ عاشوراء كان فرضا صيامُه، فحكم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على من كان جاهلا بحكمه بالإمساك وإتمام صوم اليوم.
وهل عليه القضاء ؟
فأكثر العلماء من المذاهب الأربعة على وجوب القضاء، واعتمدوا على رواية ضعيفة عند أبي داود.
والصّواب أنّه لا يجب عليه القضاء، لانعدام الدّليل على ذلك، وهو الّذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
والله أعلم.