وعيسى نادى قومه قائلا:{يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصّف:من الآية6]..
وبعد دعاء الخليل الذي ردّده الرّهبان، ونداء عيسى الذي مشى به الرّكبان، أصبح النّاس يترقّبون ظهور خاتم النبيّين، ويتشوّقون لاتّباع إمام المرسلين .. حتّى قوم اليهود الماكرين كانوا{يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: من الآية89]..
كان الرّاهب من النّصارى لا يموت حتّى يشهد أتباعه أنّه إذا ظهر أحمد بفاران، أن يكونوا له من المتّبعين ..كما حدث لسلمان الفارسيّ رضي الله عنه عندما أشرف آخر راهب عاش معه على الموت، قال له سلمان: وَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ:
( أَيْ بُنَيَّ ! وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ، أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ، بَيْنَهُمَا نَخْلٌ بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ ).
وكان أشراف العرب يطمعون في أن تكون النبوّة فيهم، والرّسالة في ذويهم، والله تعالى يقول:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68]..وقال:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} [الأنعام:من الآية124]..
أنت تريد، والله يريد، ولا يكون إلاّ ما يريد (( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ))..
فما كان من أشراف العرب إلاّ أن{قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} يقصدون الوليد بن المغيرة بمكّة، وحبيب بن عمرو بالطّائف، فردّ الله عليهم قولهم:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ (32)} أي: كما أنّه فضّل بعضكم على بعض في الرّزق، فهو يفضّل بعضكم على بعض في النّبوّة..
ولا بدّ لكلّ بداية من إرهاصات..ومقدّمات..
حفر بئرزمزم:
فقد كانت زمزم عينا يشرب منها النّاس، وكانت العرب تعظّمها لأنّها من شعائر دين إبراهيم الخليل عليه السّلام، ولكنّ عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهميّ كان قد دفن زمزم قبل أن تخرج جرهم من مكّة، فجهل النّاس مكانها، وانطمست معالمها.
وأراد الله عزّ وجلّ أن يجعل حفرَ بئر زمزم على يد عبد المطّلب جدّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ليشير إلى أنّ ملّة إبراهيم ستقام وتحيا من جديد على يد واحد من سلالة بني هاشم.
قد روى ابن إسحاق والبيهقي في " دلائل النبوّة " عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه حدّث حديث زمزم حين أمر عبد المطّلب بحفرها قال: قال عبد المطلب:
( إنّي لنائم في الحجر، إذ أتاني آت فقال:
احفر طيبة ! قال: قلت: وما طيبة ؟ ثمّ ذهب عنّي، فلمّا كان الغد، رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني، فقال:
احفر برّة ! قال: فقلت: وما برّة ؟ ثمّ ذهب عنّي، فلمّا كان الغد، رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني، فقال:
احفر المضنونة[1] ! فقال: فقلت: وما المضنونة ؟ ثمّ ذهب عنّي، فلمّا كان الغد، رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه فجاءني فقال:
احفر زمزم ! قال: قلت: وما زمزم ؟ قال: لا تنزف أبدا ولا تذمّ، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدمّ، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النّمل.
فلمّا بيّن له شأنها ودُلّ على موضعها، وعرف أنّه قد صُدِق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطّلب، ليس له يومئذ ولد غيره، فحفر فيها، فلمّا بدا لعبد المطّلب الطيّ كبّر.
فعرفت قريش أنّه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا: يا عبد المطّلب ! إنّها بئر أبينا إسماعيل، وإنّ لنا فيها حقّا، فأشركنا معك فيها !
قال: ما أنا بفاعل، إنّ هذا الأمر قد خُصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم.
فقالوا له: فأنصفنا، فإنّا غير تاركيك حتّى نخاصمَك فيها !
قال: فأجملوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه.
قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم.
قال: نعم !.
وكانت – أي: الكاهنة – بأشراف الشّام، فركب عبد المطّلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كلّ قبيلة من قريش نفرٌ، والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا.
حتّى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشّام فَنِي ماء عبد المطّلب وأصحابه، فظمئوا، حتّى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم، وقالوا: إنّا بمفازة ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلمّا رأى عبد المطّلب ما صنع القوم، وما يتخوّف على نفسه وأصحابه، قال: ما ترون ؟ قالوا: ما رأيُنا إلاّ تبعٌ لرأيك، فمُرنا بما شئت.
قال: فإنّي أرى أن يحفر كلّ رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوّة، فكلّما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثمّ واروه حتّى يكون آخركم رجلا واحدا فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا.
قالوا: نعم ! ما أمرت به.
فقام كلّ واحد منهم فحفر حفرته، ثمّ قعدوا ينتظرون الموت عطشا، ثمّ إنّ عبد المطلب قال لأصحابه:
والله إنّ إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا لعجزٌ، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا !
وقبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون ؟ فتقدّم عبد المطلب إلى راحلته، فركبها.
فلمّا انبعثت به، انفجرت من تحت خفّها عين ماء عذب! فكبّر عبد المطّلب، وكبّر أصحابه، ثمّ نزل فشرب، وشرب أصحابه، واستقوا حتّى ملئوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش، فقال: هلمّ إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا !
ثمّ قالوا: قد- والله - قضى لك علينا يا عبد المطّلب ! والله لا نخاصمك في زمزم أبدا ! إنّ الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا.
فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلّوا بينه وبينها ).
- الشّاهد: أنّ الله تعالى قد اصطفى بني هاشم بهذا الفضل المبين، الذي فيه إحياء لأمر من شعائر النّبيّين، وما كان ذلك إلاّ مقدّمة لاصطفاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لأنّ هذه الحادثة وتخصيص بيت عبد المطّلب بهذا الشّرف أصبح على لسان كلّ عربيّ، فإذا بُعِث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإنّه ينبغي أن يجهر الجميع قائلين: الشّيء من معدنه لا يُستغرب.
والحمد لله ربّ العالمين
[1]/ ( المضنونة ): الغالية، يطلق على زمزم لنفاسته، وعلى ضرب من الطّيب، أي التي يضنّ بها لنفاستها وعزّتها، قال في لسان العرب: "وقيل للخلوق والطّيب المضنونة لأنّه يضنّ بهما ".