- أمّا فارس: فقد كانت حقلا لوساوس دينيّة فلسفيّة، شاع فيها مذهب زرادشت ومزدك وغيرهما، ممّا جعلها تتخبّط في صراعات دينيّة ما لها من زوال.
الزرادشتية: ديانة من فلسفتها تفضيل زواج الرّجل من محارمه، حتّى إنّ يزدجرد الثّاني الذي حكم في أواسط القرن الخامس الميلادي تزوّج بابنته، ناهيك عن الانحرافات الخلقيّة الأخرى.
والمزدكيّة: ديانة قائمة على حلّ النّساء والأموال، وأنّ النّاس شركاء فيها كما يشتركون في الماء والنّار والكلأ ! وقد حظيت هذه الدّعوة بالقبول من أهل الرّعونات وأصحاب الشّهوات.
- وأمّا الرّومان: فقد كانت تسيطر عليهم الرّوح الاستعماريّة، وكانت منهمكة في خلاف عريض بين نصارى الشّام ونصارى مصر، وسادها الانحلال الخلقيّ والظّلم من جرّاء الإتاوات ومضاعفة الضّرائب.
- أمّا اليونان: فكانت غارقة في هوس عريض، وخرافات وأساطير كلاميّة لم تجنِ منها الشرّ المستطير، والانحراف العقديّ الكبير.
- أمّا الهند: فقد أجمع المؤرّخون أنّها كانت في أحطّ أدوارها دينيّا وخلقيّا واجتماعيّا.
والقدر المشترك بين هذه الدّول هو أنّها كانت تتزعّم الحضارة المدنيّة القائمة على أسس مادّية لا تمتّ إلى القيم الأخلاقيّة بصلة.
وفي بقعة من العالم كانت هنالك الجزيرة العربيّة .. كانت متّصفة بالهدوء أكثر من غيرها، بل كانت منعزلة عن العالم وعن مظاهر الاضطرابات التي سادت فيه.
لم يكن لديهم من التّرف ما يجعلهم يُفتنون لإيجاد طرق الانحلال الخلقيّ.
ولم يكن لديهم من الفلسفات التي انتشرت في أغلب بقاع العالم.
ولم يكن لديهم من الطّغيان العسكري ما يفتح لهم شهيّة الاعتداء والاستبداد بغيرهم، حتّى إنّ كثيرا من القبائل كانت منقادةً لفارس والرّوم.
وكانوا خاضعين إلى نوع من الفطرة، وتتّجه نفوسهم إلى بعض المبادئ والأخلاق: كالجود، والوفاء، والنّجدة، والإباء، والعفّة، وغير ذلك .. لكنّهم كانوا في حاجة إلى توجيه هذه القِيم إلى الاعتدال، فمنهم من كان يئد البنات خوفا – زعموا - من تلطّخ العِرض، ومنهم من كان يتلف الأموال بدافع الكرم، ومنهم من كان حريصا على الثّأر بدافع الإباء، ويثير الحروب بدافع النّجدة.
إذن يمكن أن نقول إنّه كان هناك استعداد تامّ لأن تكون جزيرة العرب هي مهبط الرّسالة لعدّة نواح:
1- صفاء أذهانهم: وما على الدّارس إلاّ أن يدرس أشعارهم – والشّعر ديوان العرب – فيلمس هذه الخصلة لمس اليد، فما علِقت بأذهانهم أفكار الأمم الفلسفيّة ومذاهبهم الفكريّة. ولا شكّ أنّ الخليّ من ذلك أقرب إلى الاستجابة إلى الحقّ من غيره.
2- سلامة البيئة من الاضطرابات: نعم، لقد نشبت حروب بين بعض القبائل، ولكن لم يكن ذلك هو السّمة الغالبة عليهم كما هو الشّأن عند الأمم الأخرى. بدليل أنّ تلك الحروب تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، ولا تتعدّى إلى جميع بقاع الجزيرة، بخلاف تلك الحروب الطّاحنة لدى الفرس والرّوم واليونان، فإنّها كانت تأتي على الأخضر واليابس.
أمّا أهل مكّة وحدود الحرم، فقد عمّهم الأمن، وقال الله تعالى مبيّنا حالهم:{ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا }.
والدّعوة لا تحتاج إلى شيء لانتشارها حاجتها إلى الأمن.
3- كونهم أمّة أمّية: وهذا يدفع كلّ شكّ بأنّ الّذي يأتي به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو من جملة الحضارات الشّائعة، كما قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
4- كونهم وسط حضارتين علميّا وموقعا، فيسهل أن تنتشر الدّعوة إلى كامل بقاع العالم، ولو كانت في أقصى الشّرق أو الغرب لتعذّر وصولها.
5- كونها مكان البيت الذي بناه إمام الحنفاء، والشّيء من معدنه لا يُستغرب، فكانت الأنظار كلّها متّجهة إلى تلك البقعة المباركة، قال تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: من الآية 125].
6- بهذه الأرض وُجِد أعزّ نسب على ظهر الأرض، ألا وهو نسب محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
ولكنّ العرب كانوا يتخبّطون في ضلال عقديّ مبين تدعو الفطرة نفسها إلى نبذه وطرحه، وهم الذين كانوا يعلنون فخرا انتسابهم إلى إبراهيم عليه السّلام ؟!
بداية الانحلال العقديّ..
سبق أن ذكرنا أنّ دراسة السّيرة تعني دراسة رسالة الله إلى العباد، ومن أهمّ وظائف الرّسل الدّعوة إلى تزكية النّفوس ممّا علق بها من الشّرك وفساد الخلق، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
والفطرة تحتاج إلى الشّرعة، إمّا لتثبيتها، أو لتقويمها، روى مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: (( أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ )).
وبقي النّاس على الفطرة، منذ أن خلق الله آدم إلى عهد نوح عليه السّلام.
فكيف بدأ الشّرك في الأرض ؟
روى ابن جرير الطّبري بسنده عن محمّد بن قيس – وأصل الحديث عن ابن عبّاس في صحيح البخاري-:
أنّ يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلمّا ماتوا قال أصحابهم الّذين كانوا يقتدون بهم:" لو صوّرناهم كان أشوقَ لنا إلى العبادة "، فلمّا ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس فقال: إنّما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.
وروى بسنده عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كلّهم على الإسلام.
فأين صارت هذه الأصنام بعد الطّوفان ؟
جاء الطّوفان كما هو معلوم، وطُهّرت الأرض من الشّرك والمشركين، حتّى طال عليهم الأمد مرّة أخرى فأحيوا أمر هؤلاء. ولكن هذه المرّة إلى جانب الشّرك الأرضي ظهر نوع آخر من الشّرك وهو عبادة الكواكب، فأرسل الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام ومَن بعدهم حتّى انتشر دين إبراهيم، وكان يُعظّم في الجزيرة العربيّة بشدّة.
وعاد الشّرك إلى الظّهور مرّة أخرى، فأوّل ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السّلام – كا في " سيرة ابن إسحاق"- أنّه كان لا يظعن [أي: يسافر] من مكّة ظاعنٌ منهم إلاّ حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتّى وصل ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة.
ثمّ خلف الخلوف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضّلالات.. بل إنّ بعضهم أحيا أمر أولئك الصّالحين الخمسة:
روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال: ( صَارَتْ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ:
أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ.
وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لِهُذَيْلٍ.
وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبإٍ.
وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ.
وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ، أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ ).
وكلّ ذلك حدث بالشّام..
وجاء دور عمرو بن عامر بن لحيّ: الّذي جلب الأصنام من الشّام إلى مكّة.
خرج عمرو بن عامر من اليمن فسار مع من تبعه من قومه حتّى نزلوا الشّام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مرا، ونزلت أزد السّراة بالسّراة، ونزلت أزد عمان بعمان. وفيهم سار المثل المعروف:" تفرّقوا أيدي سبأ ".
ثمّ إنّ عمرو بن لحيّ قدم البلقاء، وبها يومئذ العماليق - وهم ولد عملاق – رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنما، فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدوه ؟
فأعطوه صنما يقال له هُبَل فقدم به مكّة، فنصبه وأمر النّاس بعبادته وتعظيمه. وحرّم ما أحلّ الّه من الإبل السّوائب والبحائر.
روى البخاري ومسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ )).
وفي رواية لهما عن عائشة: (( رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَرَأَيْتُ عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبَهُ وَهْوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ )).
الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلَا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ.
وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ.
وهنالك انتشر الشّرك في مكّة وما حواليها، وبقي فيهم تعظيم البيت، والطواف به، والحجّ، والعمرة، والوقوف على عرفة، والمزدلفة، وهدي البُدْن، والإهلال بالحجّ والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا:" لبّيك اللّهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك، إلاّ شريك هو لك، تملكه وما ملك ". فيوحّدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده.
يقول الله تبارك وتعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] أي: ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي.
عندئذ كان لا بدّ أن يُصلح أمر هؤلاء، وفي علم الله تعالى أنّه لم يبق من أمر الدّنيا مقدار ما مضى منها، فشاء أن يأذن ببعثة سيّد البشر أجمعين، وإمام المرسلين محمّد صلّى الله عليه وسلّم..