الثّالث: ذكر دعاء محض، وقد ذكر المصنّف حديثا واحدا.
*** ** *** **
الحديث الأوّل:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُور بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. قَالَ:
(( وَمَا ذَاكَ ؟ )).
قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ ؟ )).
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ! قالَ:
(( تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً )).
قَالَ أَبُو صَالِحٍ[1]: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فقالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِهِ مَنْ يَشَاءُ )).
قَالَ سُمَيٌّ: فَحَدَّثْتُ بَعْضَ أَهْلِي بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: وَهِمْتَ، إِنَّمَا قَالَ: (( تُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ )).
قال: فَرَجَعْتُ إِلَى أَبِي صَالِحٍ فَقُلْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: ( اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ )، حَتَّى يَبْلُغَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ.
[رواه البخاري، ومسلم،-واللّفظ له-].
الشّـرح:
- هذا الحديث فيه حرصُ الصّحابة رضي الله عنهم على أعمال البرّ، وتنافسهم في مضامير الإحسان، عملاً بقول الله تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
- فجاء الفقراء ( فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُور بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ )، وأهل الدّثور هم الأغنياء، سمُّوا بذلك لأنّهم يلبسون الدّثار، وهو الثّوب الّذي يُلبَس فوق الثّوب، وذلك لا يستطيعه إلاّ غنيّ، أمّا الفقير فلا يلبس إلاّ ثوبا على اللّحم، يسمّى الشِّعار.
وسب شكواهم أنّ للأغنياء من الأعمال الصّالحة ما لا يستطيعه الفقراء: كالصّدقات، والحجّ، والعتق، وغير ذلك، فكيف السّبيل إلى بلوغ منازلهم ؟
فأرشدهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى ذكر الله تعالى دُبُر كلّ صلاة مكتوبة، فيبلغون بالذّكر ما بلغه الأغنياء بأعمالهم.
ولكنّ الأغنياء بلغهم الحديث، فأصبحوا يحرصون على هذه الأذكار، وبذلك تساوَوْا مع الفقراء، وفاقوهم بأعمال البرّ الأخرى !
فلمّا سألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن السّبيل لمنافستهم، قال: (( ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِهِ مَنْ يَشَاءُ )).
- وبهذا استدلّ أهل العلم على أنّ الغنيّ الشّاكرَ خيرٌ من الفقيرِ الصّابرِ، وهي مسألة مشهورة طويلة الذّيل.
- وفي الحديث أنّ التّسبيح والحمد التّكبير دُبُر الصّلوات يُبلِّغ العبدَ منازل المتصدّقين والمعتِقين وغير ذلك من أعمال البرّ.
المسـائـل: يتعلّق بالتّسبيح دبرَ الصّلوات مسألتان:
الأولى: أنّه مقيّد بالصّلوات المفروضة كما يدلّ عليه تبويب المصنّف، ودليل ذلك الحديث الّذي سيذكره المصنّف، وهو:
ما رواه مسلم عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ أَوْ فَاعِلُهُنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً )).
الثّانية: هناك أربع صيغ في ذلك:
الأولى: أن تقول ( سبحان الله ) 33 مرة، و( الحمد لله ) 33 مرّة، و( الله أكبر ) 33 مرّة، وفي المائة تقول: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير ).
وهذه رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ذكرها المصنّف رحمه الله بعدُ، فقال:
وفي رواية لمسلم أيضا: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( مَنْ سَبَّحَ [ اللَّهَ ] فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ )).
[ورواه مالك، وابن خزيمة في " صحيحه " بلفظِ هذه، إلاّ أنّ مالكا قال:
(( غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ )).
قال الشّيخ الألبانيّ رحمه الله في تعليقه:" ومن طريق مالك رواه النّسائي في "عمل اليوم" (202/142). وزاد في رواية له (143): (( يُحْيِي وَيُمِيتُ ))، وهي شاذّة أو منكرة، ولعلّها من شيخ النّسائي (محمّد بن وهب) وهو الحرّاني، قال النّسائي: " لا بأس به ".
الثّانية: أن تقول: ( سبحان الله ) 33 مرة ، و( الحمد لله ) 33 مرة ، و( الله أكبر ) 34 مرة.
وهذه رواية مسلم أيضا عن سُمَيٍّ عن أبي هريرة رضي الله عنه .
الثّالثة: أن تقول ( سبحان الله ) 25 مرة، و( الحمد لله ) 25 مرّة، و( لا إله إلا الله ) 25 مرة ، و ( الله أكبر ) 25 مرة.
وهذه رواية النّسائي عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه أنَّ رَجُلًا رَأَى فِيمَا يَرَى النَّائِمُ: قِيلَ لَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمَرَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلّى الله عليه وسلّم ؟ قَالَ: أَمَرَنَا أَنْ نُسَبِّحَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنَحْمَدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنُكَبِّرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَتِلْكَ مِائَةٌ. قَالَ: سَبِّحُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَاحْمَدُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَكَبِّرُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَهَلِّلُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَتِلْكَ مِائَةٌ. فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: (( افْعَلُوا كَمَا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ )).
الرّابعة: أن تقول: ( سبحان الله ) عشرًا، و( الحمد لله ) عشرًا، و( الله أكبر ) عشرًا.
وهذه روية البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( تُسَبِّحُونَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا، وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا )).
وسيذكر المصنّف رحمه الله حديثاً في ذلك.
أمّا ما زاده بعضهم وهو مشروعية الإتيان بهذا الذّكر أحد عشر مرّة ! فضعيف يبيّنه سُمَيٌّ راوي الحديث، سببه سوءُ فهمٍ لمعنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً )) فجعلوا الثّلاثة والثّلاثين ترجع إلى المجموع ! فبيّن سميٌّ أنّ العدد يرجع إلى الجميع لا المجموع.
*** ** *** **
ثمّ قال المصنّف رحمه الله: ورواه أبو داود، ولفظه: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:
قَالَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ أَصْحَابُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فُضُولُ أَمْوَالٍ يَتَصَدَّقُونَ بِهَا، وَلَيْسَ لَنَا مَالٌ نَتَصَدَّقُ بِهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( يَا أَبَا ذَرٍّ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تُدْرِكُ بِهَا مَنْ سَبَقَكَ، وَلَا يَلْحَقُكَ مَنْ خَلْفَكَ، إِلَّا مَنْ أَخَذَ بِمِثْلِ عَمَلِكَ ؟)).
قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:
(( تُكَبِّرُ اللهَ عزّ وجلّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُسَبِّحُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَخْتِمُهَا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ )).
قال الشّيخ الألبانيّ رحمه الله في "تعليقه" عند لفظة (( غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ )):
" كذا الأصل تبعا لأبي داود، ولم ترد هذه الزّيادة: (( غفرت ذنوبه ...)) عند أحمد في هذه الرّواية، وهو الصّواب كما حقّقته في "صحيح أبي داود" (1384)، وهي غير منسجمة مع السّياق كما هو ظاهر، وإنّما هو في رواية مالك المتقدّمة، وقبلها رواية مسلم، فكأنّه دخل على الرّاوي حديث في حديث ".
والله أعلم.