الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته.
الصّواب - والله تعالى أعلم - جواز تخطّي المساجد، وللمسلم أن يُصلّي في أيّ مسجدٍ يجد فيه تحقيق ثمرات الجماعة، من خشوع واطمئنان، وتدبّر للقرآن، وغير ذلك من مقاصد الصّلاة جماعةً.
أمّا منشأ هذه الفتوى فهو: سوء فهمٍ لحديث ضعيف.
- أمّا الحديث فهو ما رواه الطّبراني عن ابن عُمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لِيُصَلِّ الرَّجُلُ فِي المَسْجِدِ الَّذِي يَلِيهِ، وَلاَ يَتَّبِعْ المَسَاجِدَ )).
وهذا الحديث ضعيف جدّا، ومن ألقى نظرة على تخريج الشّيخ الألباني رحمه الله له في " السّلسلة الصّحيحة " (2200) حيث حسّنه، لأدرك أنّه بوصف الضّعف الشّديد أحرى، ولا عيب في ذلك، فجلّ من لا يسهو، وسبحان من لا يخطئ.
وكنت قد عرضت ذلك التّخريج سنة 1993 م ونحن بالشّام على الشّيخ محمد عيد عبّاسي حفظه الله، فقيّد ذلك على هامش الكتاب، وعزم على عرضه على الشّيخ الألباني رحمه الله لإعادة النّظر فيه، متى وفّقه الله تعالى إلى زيارته.
- أمّا معنى الحديث، فهو يشير إلى أمر آخر، لا علاقة له بما عليه فتوى بعض أهل العلم، وهو:
أنّ المسلم إذا قصد مسجدا ففاتتْه الصّلاة، فليس له أن يقصِد مسجدا آخر، ولكن عليه أن يُصلّي في المسجد الّذي قصده، ومن التنطّع اتّباع المساجد.
يدلّ على ذلك فهم السّلف:
فقد بوّب ابن أبي شيبة رحمه الله في " مصنّفه " لهذه المسألة بقوله: ( الرّجل تفوته الصّلاة في مسجد قومه )، وذكر قولين عن السّلف في ذلك:
- القول الأوّل: أنّه يتّبع المساجد.
فعن معاويةَ بنِ قُرّة رحمه الله قال:" كانَ حُذَيْفَةُ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ قَوْمِهِ، يُعَلِّقُ نَعْلَيْهِ وَيَتَّبِعُ الْمَسَاجِدَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا فِي جَمَاعَةٍ ".
وعن الأَسْوَدِ بن قيس رحمه الله " أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ قَوْمِهِ، ذَهَبَ إِلَى مَسْجِدٍ غَيْرِهِ ".
وعن الرّبِيعِ بنِ أبِي راشِدٍ قال:" جَاءَنَا سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ ونحْنُ في آخِرِ الصَّلَاةِ، فَسَمِعَ مُؤَذِّنًا، فَأَتَاهُ ".
- القول الثّاني: يصلّي في مسجده، ولا يتّبع المساجد.
فعن مجاهد رحمه الله قال:" إذا فاتَتْكَ الصّلاةُ في مسْجِدِك، فَلاَ تتَّبِعْ المَسَاجِدَ، صَلِّ فِي مَسْجِدك ".
وعن إبراهيمَ النّخعي رحمه الله قال:" إِذَا فاتَتْ الرَّجُلَ الصَّلاةُ في مسجد قومِه، لَمْ يَتَّبِعْ المَسَاجِدَ ".
وعن علقمةَ رحمه الله قال:" كان تَفُوتُه الصَّلاةُ في مسْجِدِ قومِه، فيَجِيءُ إلى المسْجِدِ فيَدْخُلُهُ، فيُصَلِّي فيه وهو يسمَعُ الأذَانَ مِنَ المسْجِد فَلاَ يَأْتِيهِمْ ".
وعن الحسن رحمه الله في الرَّجلِ تفُوتُه الصَّلاةُ في مسجِدِ قومِهِ، فَيَأْتِي مسجِداً آخَرَ، فقال الحسنُ:" مَا رَأَيْنَا المُهَاجِرِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ".
ولم أسُق هذه النّقول ابتغاء معرفة الرّاجح في المسألة، وإنّما الّذي نستفيده من هذه النّقول، أنّ المراد باتّباع المساجد ليس تخطّيَها التماسا للتدبّر الأحسن، والخشوع الأتمّ، كما فهمه بعضهم.
تنبيه مهمّ:
علّة كراهة بعض السّلف تخطّي المساجد إذا فاتت الصّلاة إنّما تكون في الصّلوات المفروضة، حيث لا تكون علّة هذا التخطّي ظاهرةً، فربّما:
اتُّهِم بمخالفة جماعة المسلمين.
أو قُذف بعداوة للإمام.
أو كان سبباً لدخول الحزن على قلب الإمام، ونحو ذلك.
أمّا في صلاة التّراويح، فهذه العلل منتفية؛ والسّبب ظاهر لكلّ أحد، وهو: أنّ من يتّبع المساجد إنّما يقصد حسن التّلاوة، وتمام الخشوع، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
والله تعالى أعلم.