رحلت أطلب أصل العلم مجتهدا *** وزينة المرء في الدّنيا الأحاديث
لا يطلبُ العلمَ إلاّ بـازل ذكر *** وليس يُبغضـه إلاّ المخانيـث
لا تعجبنّ بمـالٍ سـوف تتركه *** فإنّما هـذه الدنيـا مواريـث
فالعلم أشرف ما اجتمعت عليه القلوب، وقد وصف الله الوحي وهو تاج العلوم بقوله:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}، فالعلم ثقيل، ويحتاج إلى عزيمة، وقوّة، وصبر، وجلد، وجمع البال له، لذلك قال موسى عليه السّلام:{ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)}. فالأمر جدّ عظيم، والتّناوم والتّكاسل والخمول لا يليق بالمتعلّم، والمحروم من حرمه الله.
فنحيل القارئ الكريم إلى كتاب الخطيب، فقد قطعت جهيزة قول كلّ خطيب.
ومن الآداب أيضا:
3- الإقبال على العلم: ومن مظاهر ذلك:
- الشّغف بالعلم: بأن تنطلق إلى رياض الجنّة، تنافس إخوانك، وتسابق خلاّنك، فلا تسأم وأنت في مجلس العلم، ولا تملّ ولا تفتر.
فأوّل علامات التّوفيق أن ينطلق المسلم إلى حلقات العلم وقلبُه يشتعل شوقا لهذا الخير، فينفتح قلبه وقالبه لماء الوحي، حتّى إذا نزل ذلك الماء على القلب، كان كالغيث الطّيب في الأرض الطيّبة، وما من مسلم يقبل على تلقّي العلم بشغف إلاّ نفعه الله به.
- ثمّ عليك بحسن الإنصات والاهتمام: فمن حقّ العلم أن نفتح له قلوبَنا وأسماعَنا، وأن نتذكّر أنّ هذه الآذان تتشرّف وتُكرَم بسماع كلام الله تعالى، وحديث رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
ولذلك كانت أوّل وصيّة من الله عزّ وجلّ لنبيّه موسى عليه السّلام:{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)} [طه].
إنّه أدب المجلس {اِخْلَعْ نَعْلَيْكَ} .. وأدب الحديث {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} .. فالله يُعلّمنا في هذا الخطاب أنّ الإنصات - وهو الاستماع بتأمّل - من حقوق مجالس العلم.
وانظر إلى حال مؤمني الجنّ وهم بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصفهم المولى عزّ وجلّ بقوله:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا}.
(أنصتوا): وصيّة يوصي بها بعضهم بعضا، فلمّا تأدّبوا في مجلس العلم، نفعهم الله به.
وقد حكى الشّيخ محمّد المختار الشّنقيطي حفظه الله قال:" وإنّي أعرف من طلاّب العلم ممّن صحبناهم، وبعضهم قد مات وتُوُفّي - رحمة الله عليهم - كان من كبار السّنّ، وجدنا فيهم من الإقبال على العلم العجب العجاب ... كنّا في مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نجلس بين يدي الوالد ونقرأ الحديث، فربّما وقع شيء في المسجد، فتلتفت الأنظار هنا وهناك، وهم وجوههم لا تنصرف عمّن يتعلّمون منه، ولا يمكن أن تجد الواحد يلتفت يمنة أو يسرة ... إنّما تراه مقبلا على الشّيخ أو مطأطئا رأسه في كتابه أو صحيفته ... وهذا من أبلغ ما يكون من الكمال في طلب العلم ".
وهكذا كان إقبال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا جلسوا أطرقوا كأنّ على رؤوسهم الطّير، وفي حديث سهيل بن عمرو يوم الحُديبية أنّه قال يصف حال أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهم بين يديه:" وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ".
وفي الحكمة: ( أعط العلم كلّك يُعطِك بعضه )، فكيف إذا أعطاه الإنسان بعضه ؟
ومن مظاهر الإقبال على العلم بشغف ونهم الأدب الرّابع:
4- حفظ العلم:
فإنّ حفظ العلم من أجلّ القربات، ومن أنفع وسائل الثّبات، وقد جعل الله من خصائص هذه الأمّة أنّ علمها محفوظ، فضمن الله تعالى لكتابه بالحفظ دون سائر الكتب، حيث قال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، بخلاف غيره من الكتب فقد وكل حفظها إلى الأحبار، قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ}.
وهذه أعظم منّة على هذه الأمّة، أن يعتني الله تعالى بحفظ كتابها ومصدر علومها، ولكن إذا أراد الله شيئا جعل له أسبابه، وأعظم سبب لحفظ الوحي هو:
- الصّدور قبل السّطور، قال تعالى:{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}.
- ثمّ حفظه بحفظ شرحه وبيانه، حيث حَفِظ الله سنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم من الضّياع.
- وتصفيتها ممّا دخل فيها من كذب وخطأ، يوم سخّر لهذه الأمّة سلفها الذين ما تركوا شاردة ولا واردة إلاّ حفظوها ونقلوها كما حفظوها، ليبيّنوا كلام ومراد الله عزّ وجلّ.
فالحفظ من النّعم التي أنعم الله تعالى بها على العباد، وهو من أعظم ما يُتقرّب إلى الله به، وقد جاء في السنّة ما يدلّ على الأمر به والتّرغيب فيه، من ذلك:
- ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عبّاس قال: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
(( مَنْ الْقَوْمُ ؟- أَوْ مَنْ الْوَفْدُ ؟ )) قَالُوا: رَبِيعَةُ.
قَالَ: (( مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ -أَوْ بِالْوَفْدِ- غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى )). فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ.
وَسَأَلُوهُ عَنْ الْأَشْرِبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ، قَالَ: (( أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ؟)) قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (( شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ )).
وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ - وَرُبَّمَا قَالَ: الْمُقَيَّرِ -وَقَالَ: (( احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ ))[1].
والحديث أخرجه البخاري في "كتاب العلم" قال:" باب تحريض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على حفظ العلم ".
- وروى البخاري ومسلم عن سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه في قصّة المرأة الواهبة نفسها، حين خطبها أحد الصّحابة وعجز عن مهرها، قال له صلّى الله عليه وسلّم: (( مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ؟)) قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّهَا. قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ )). قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (( اذْهَبْ، فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ )).
فكان حفظ هذا الصّحابيّ للقرآن سببا لتيسير زواجه.
- وروى مسلم عن أبي الدّرْداءِ رضي الله عنه أنّ النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنْ الدَّجَّالِ )).
- وكان جبريل عليه السّلام يراجع القرآن مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلّ عام مرّة، وفي العام الّذي تُوُفّي فيه عرضه عليه مرّتين.
- وكان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يهتمّون بحفظ الأحاديث، لأنّهم يعلمون أنّ أوّل العلم حفظه؛ فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ قال: قلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ. قال صلّى الله عليه وسلّم: (( ابْسُطْ رِدَاءَكَ !)).قال: فَبَسَطْتُهُ، قال: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (( ضُمَّهُ ))، فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ.
سأل مُهنّا الإمام أحمد رحمه الله: ما الحفظ ؟ قال: الإتقان هو الحفظ. وقال ابن المبارك رحمه الله: الحفظ الإتقان.
فطالب العلم بلا حفظ لا يكون مُتقِناً أبدا.
قال الخليل بن أحمد رحمه الله وهو يبيّن أهمّية الحفظ:" الاحتفاظ بما في صدرك أولى من درس ما في كتابك، واجعل كتابك رأس مالك، وما في صدرك للنّفقة ".
وقال عبد الرزاق رحمه الله:" كلّ علم لا يدخل مع صاحبه الحمّام فليس بعلم ".
وقال هبة الله البغدادي رحمه الله:
علمـي معـي أينما هِـمْتُ يتبعـني *** بطـني وعـاء له، لا بطـن صنـدوق
إن كنت في البيت كـان العلم معـي *** أو كنت في السّوق كان العلم في السّوق
وقال عبيد الله الصّيرفي رحمه الله:
ليس بعلمٍ ما حوى القمطر *** ما العلم إلاّ ما حواه الصّدر
وقال ابن شبيب الأزدي رحمه الله:
أأشهـد بالجهـل في مجلس *** وعلمي في البيت مستـودع
إذا لم تكن حافـظا واعـيا *** فجـمعك للكتب لا ينفـع
وصدقوا رحمهم الله، لأنّ أهمّ فائدة للحفظ أن يكون العلم معك، في التّعليم، في الدّعوة، في التأثير خاصّة، وغير ذلك، فكما يؤثّر فيك الحافظ، عليك أن تؤثّر كذلك.
والحفظ من معالي الأمور، مرتقى صعب، شأنه شأن كلّ أمر ذي بال، وقد حفّت الجنّة بالمكاره.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:" ما رأيت أصعب على النّفس من الحفظ للعلم والتكرار له.."، وقد فسّر ذلك أنّه مدعاة إلى الملل، لأنّ حفظ الشّيء والتّكرار له تملّه النّفس، بخلاف دراسة الجديد، فالنّفس دائما في تجديد.
والله الموفّق لا ربّ سواه.
[1] (الحنتم): إناء من شعر وطين، و(الدباء) إناء من القرع، و(النّقير) إناء من جذع الشّجر، و(المزفّت) إناء يطلى بالزّفت.