(( دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ )).
فَسمِعَ بِذَلِكَ عبْدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ، فقالَ: فَعَلُوهَا ؟! أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ.
فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فقَامَ عُمَرُ، فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ.
فقَالَ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( دَعْهُ، لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ )).
شرح ألفاظ الحديث:
- ( كُنَّا فِي غزَاةٍ ): رجّح أكثرُ الشرّاح كالحافظ ابن حجر وغيره أنّ ذلك كان في طريقهم إلى المدينة بعد غزوة بني المصطلق.
- ( فَكَسَعَ ): قال الإمام الجوهريّ رحمه الله في "الصّحاح" (3/1276):" الكَسْع: أن تضرب دبر الإنسان بيدك أو بصدر قدمك ". وكان ذلك في عرفهم شديدا.
- ( مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ ): هي ما كان عليه نظام الجاهليّة القَبَليّ من التعصّب إلى القبيلة أو الطّائفة أو الجماعة، وقد رفع الله تعالى هذه الأمّة إلى نظام:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات من: 10]، و{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران من: 103].
- ( دَعُوهَا ): قولان لأهل العلم في عودِ الضّمير في "دَعُوهَا":
الأوّل: أنّه عائد على دعوى الجاهليّة، وهو الّذي ذهب إليه أكثر الشرّاح.
الثّاني: أنّه عائدٌ على الكَسْعة، وهو ما تفيده رواية الإمام أحمد: (( دَعُوا الكَسْعَةَ؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ ))[1]. وقد استبعدَ ذلك كثير من العلماء.
ويمكن توجيه هذه الرّواية بأن يقال: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الكسع وعلّل ذلك بأنّه لا يأتي إلاّ بالخصام ودعوى الجاهليّة، وهي منتنة.
- ( فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ ): من النّتن، أي: أنّها كلمة قبيحة خبيثة ["فتح الباري" (8/649)].
- ( فَعَلُوهَا ): هو استفهام بحذف الأداة، أي: ( أَفَعَلُوهَا ) أي: الأثرة، فصاروا يؤثرون أنفسهم علينا ! أي: شرّكناهم فيما نحن فيه فأرادوا الاستبداد به علينا ؟!
وفي مرسل قتادة: فقال رجلٌ منهم عظيمُ النّفاق: مَا مَثَلُنَا ومَثَلُهُم إلاّ كمَا قالَ القائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ.
العبرة من الحديث:
كانت غزوة بني المصطلق في العام الخامس من الهجرة على الأصحّ، وقيل: سنة ستٍّ.
وبعد أن نصر الله المسلمين، استراحوا عند بئرٍ تُدعى " المريسيع "، وكانت قليلة الماء، فحدث بين رجلين خصامٌ حول الماء، كان أحدهما من المهاجرين، والآخر من الأنصار. فلمّا أدلى الأنصاريُّ بدلوه إلى البئر كسعه المهاجريّ !
فاستغاثَ كلٌّ منهما بقومه ! فقال المهاجريّ: يا للمهاجرين ! وقال الأنصاريّ: يا للأنصار !
أعظم نسبة على الأرض بعد الانتساب إلى الإسلام هي: الانتساب إلى المهاجرين والأنصار. وقد تكرّر في القرآن وحديثِ سيدّ ولد عدنان نسبة الصّحابة إلى الهجرة والنّصرة.
ولكنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سمّى هذا الانتساب في هذا المقام: دعـوى الجـاهـلـيّـة !
لأنّها ما أطلِقت للتّعريف والبيان، ولكنّها أطلِقت تعصّباً وتحزُّباً !
في مثل هذا المقام ينبغي أن تذوب كلّ نسبة إلاّ الانتساب إلى الإسلام، كما جاء في حديث الحارث الأشعريّ مرفوعا: (( مَنْ ادَّعَى دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ )). فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ ؟ قَالَ:
(( وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللهِ )) [رواه التّرمذي].
- ولم يدُم هذا الخصام إلاّ لحظاتٍ قليلةً، حاول فيها رأس المنافقين أن يستغلّها لصالحه، فقال: (( فَعَلُوهَا ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ )) !
أي: سأؤلّب أهل المدينة جميعَهم، وسأستنفرُهم كلَّهم، حتّى يقوموا قومةَ رجلٍ واحدٍ ليُخرجوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المهاجرين، ويطردوهم خارج المدينة أذلّة صاغرين !
ولكنّ الله تعالى سلّم؛ فقد كانت كلمات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على قلوب الصّحابة رضي الله عنهم شؤبوبا من الماء صبّ على اللّهب فأخمده. وعاد المنافق خائباً خائفاً، يعتذر عمّا قاله في حقّ الأخيار والأبرار.
فيا أهل الحقّ ..
إنّ ابنَ أبَيٍّ عاد منذ سنواتٍ مستغلاًّ فرقتَكم، مستثمرا نزاعَكم، ويبني مجده على أنقاض خصوماتكم، فهلاّ عُدتُم إلى رُشدِكم، وشمّرتُم عن سواعدكم، هربا من دعوى الجاهليّة ..
فإنّها - والله - منتنة، قد أزكمت رائحتُها الأنوف، وانفضّ بسببها عنكم الألوف.
وإلى من نجّاهم الله من براثن الفرقة والاختلاف، عليكم بالإسهام إلى جمع الكلمة والائتلاف، واحذروا من:
أن تنفخوا في نارٍ أمركم الله تعالى بإخمادها .. وأن تُحْيُوا فتنةً أوصاكم الله عزّ وجلّ بوأدِها .. وأن تُرضعوا فُرقةً دعاكم الله تعالى إلى فطامِها.
تأمّلوا قول الحبيب صلّى الله عليه وسلّم آخر الحديث: (( دَعْهُ، لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ )).
فدعوها، لا يتحدّث النّاس أنّ أهل الحقّ يطعنون في أصحابهم !