الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فقبل الإجابة عن سؤالك - أخي الكريم - فإنّي لا أجد مفرّا ولا بدّا، من التّذكير بأمرين مهمّين جدّا:
الأوّل: لا ينبغي أن يكون همُّ المسلم هو الحكمَ على الأعيان والأشخاص، وإنّما عليه أن يحمل همَّ دعوتهم ونصحهم، وبيان الحقّ لهم بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالّتي هي أحسن؛ لأنّه كما قال الإمام أحمد رحمه الله:" إِخراجُ النَّاسِ مِنَ السُّنَّةِ شَديد " [أخرجه الخلاّل في "السّنّة" (2/373، رقم 513) بإسناد صحيح].
الثّاني: أنّ الّذي يُصدِر مثل هذه الأحكام هم العلماء الّذين جمعوا بين العلم والورع، والحلم والأناة، وتجرّدوا من الأهواء والصّراعات الشّخصية، وينظرون في المصالح والمفاسد، ونحو ذلك.
ثمّ أقول لك - أخي الكريم -:
ما أكثرَ ما دعونا ولا نزال ندعو إخواننا إلى ضرورة الاعتناء بضوابط المسائل وقواعدها، قبل الخوض في فروعها وشعبها ! فمن حُرم الأصول حُرِم الوصول، وعاق غيره عن حصول المأمول، ولَأَنْ تعلّمَ الفقير صيد السّمك خير من أن تُعطِيه كلّ يوم سمكة.
ولا أنسى أبدا أحدَ الدّعاة - هدانا الله وإيّاه - ممّن حمل لواء الإقصاء بالجملة، وبعد أن سُجِّل من ضحاياه المئات، سُئل عبر الهاتف: ما الضّابط لمعرفة متى يخرج الرّجل من دائرة السّلفيّة ؟
فكان الجواب - وليت المكالمة انقطعت - حينئذ أن قال: نصف العلم لا أدري !
هكذا يُخرجون من شاءوا متى شاءوا كيفما شاءوا من دائرة السنّة، وعلى مذهب من ؟
على مذهب صاحب الطّلاسم: لست أدري .. في ثوب شرعيّ: نصف العلم لا أدري !
وعودٌ إلى الجواب عن سؤالك أخي الكريم:
الضابط في إلحاق شخص بأهل الأهواء والبدع من عدمه، وفي عذرهم من عدمه؛ هو: أن لا يجعلوا ما ابتدعوه حدّا يوالُون عليه، ويعادون عليه، ويمتحنون الناس به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن تحدّث عن بعض الأعلام ممّن وقع وخاض في بدعة علم الكلام:
" ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين؛ يوالون عليه ويعادون؛ كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك.
ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمّة وأئمّتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنّة؛ بخلاف من والَى موافِقَه وعادى مخالِفَه وفرّق بين جماعة المسلمين، وكفّر وفسّق مخالفَه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات؛ واستحلّ قتالَ مخالفِه دون موافقه؛ فهؤلاء من أهل التفرّق والاختلافات".
[" مجموع الفتاوى " (3/349)].
وكثيرٌ ممّن وقع في مصيبة التّبديع أيّامَنا هذه، يصدُق عليه كلام شيخ الإسلام رحمه الله، فيكونون أولى بوصف أهل البدع من إخوانهم، ولكنّنا لا نعاملهم بالمثل، ونقول ما قاله عليّ رضي الله عنه: ( إِخْوَانُنَا بَغََـوْا عَلَيْنَا ).
وما أعظم أجر من أصلح بين المختلفين هذه الأيّام، حيث يغفر الله لكلّ مؤمن إلاّ لمشرك أو مشاحن.
والله تعالى الهادي إلى الصّواب، إليه المرجع والمئاب.