والسنّة زاخرة بإثبات هذا الاسم الكريم.
* معنى اسم الله ( الحكيم ):
اشتُقّ الاسم الكريم من ( الحكمة )، ولها معانٍ:
- الأوّل: وضع الشّيء في محلّه وموضعه وإتقان العمل. قال في "لسان العرب":
" قيل: الحكيم ذو الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يُحسِن دقائق الصّناعات ويتقنها (حكيم)".
- الثّاني: الحُكْم. قال في "لسان العرب":
" وهو: الحكيم له الحكم سبحانه وتعالى، قال الأزهريّ: من صفات الله الحَكَم والحكيم والحاكم، ومعاني هذه الأسماء متقاربة.
وهذا له أصل في اللّغة لأنّ الحكم هو: المنع والقضاء، وسمّي القاضي حاكما لأنّه يمنع كلاّ من المتخاصمين من الاعتداء، ومنه حَكَمَة اللِّجام.
لذلك جمع ابن الأثير بين المعنين فقال:" في أسماء الله تعالى الحَكَم، والحَكِيم، وهما بمعنى الحاكم، وهو القاضي. فهو فعيل بمعنى فاعل، مثل قدير بمعنى قادر، وعليم بمعنى عالم، أو هو: الّذي يُحكِم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى مُفْعِل "اهـ.
- الثّالث: العلم. قال الجوهريّ رحمه الله:
" الحكمة من العلم، والحكيم: العالم وصاحب الحكمة، وقد حكم أي: صار حكيما، قال النّمر بن تولب:
وأَبْغِضْ بَغِيضَكَ بُغْضًا رُوَيْدًا إِذَا أَنْتَ حَاوَلْتَ أَنْ تَحْكُمَا
أي: إذا حاولت أن تكون حكيما، والحكم: العلم والفقه، قال الله تعالى:{وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا}.
وكلّ هذه المعاني لا شكّ أنّها ثابتة لله تبارك وتعالى، فهو العليم، وواضع الأشياء في مواطنها، والحاكم لا معقّب لحكمه.
قال الشّيخ خليل هرّاس رحمه الله في " شرح النّونية " (2/75):
" ومن أسمائه الحسنى سبحانه ( الحكيم )، وهو إمّا:
فعيل بمعنى فاعل، أي: ذو الحكم، وهو القضاء على الشّيء بأنّه كذا أو ليس كذا.
أو فعيل بمعنى مُفعِل، وهو الّذي يُحكم الأشياء ويُتقنها "اهـ.
قال ابن القيّم رحمه الله في " النّونيّة ":
وهو الحكيم، وذاك من أوصافه *** نوعان أيضا ما هما عدمان
حُكم وإحكـام فكلّ منهـما *** نوعـان أيضا ثابتا البرهان
ويقصد بقوله " الإحكام نوعان أيضا "، ما ذكره السّعدي رحمه الله فقال:
" وحكمته عزّ وجلّ نوعان:
أحدهما: الحكمة في خلقه: فإنّه خلق الخلق بالحقّ، وكان غايته والمقصود به الحقّ، خلق المخلوقات كلّها بأحسن نظام، ورتّبها أكمل ترتيب، وأعطى كلّ مخلوق خلقه اللاّئق به، بل أعطى كلّ جزء من أجزاء المخلوقات، وكلّ عضو من أعضاء الحيوانات خلقته وهيئته، فلا يرى أحد من خلقه خللا ولا نقصا ولا فطورا.
فلو اجتمعت عقول الخلق من أوّلهم إلى آخرهم ليقترحوا مثل خلق الرّحمن أو ما يقارب ما أودعه في الكائنات من الحسن والانتظام والإتقان لم يقدروا، وأنّى لهم القدرة على شيء من ذلك..
وقد تحدّى عباده أن ينظروا ويكرّروا النّظر والتأمّل هل يجدون في خلقه خللا أو نقصا ؟ وأنّه لا بدّ أن ترجع الأبصار كليلة عاجزة عن الانتقاد على شيء من مخلوقاته[1].
النّوع الثّاني: الحكمة في شرعه وأمره: فإنّه تعالى شرع الشّرائع وأنزل الكتب، فهل هناك كرم أعظم من هذا ؟!
فإنّ معرفته تعالى، وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له، وحمده وشكره والثّناء عليه أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق .. كما أنّها هي السّبب الوحيد للوصول إلى السّعادة الأبديّة والنّعيم الدّائم، فلو لم يكن في شرعه، وأمره إلاّ هذه الحكمة العظيمة الّتي هي أصل الخيرات وأكمل اللّذّات لكانت كافية شافية.
هذا وقد اشتمل شرعه ودينه على كلّ خير، فأخباره تملأ القلوب علما ويقينا وإيمانا وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب، ويزول انحرافها، وتُثمر كلّ خُلُق جميل، وعمل صالح وهدى ورشد.
ونواهيه محتوية على غاية الحكمة والصّلاح والإصلاح للدّين والدّنيا، فإنّه لا يأمر إلاّ بما فيه مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلاّ عمّا مضرّته خالصة أو راجحة ".اهـ.
قال ابن القيّم رحمه الله:
والحكمة العُليا على نوعين أيـ *** ـضا حُصّلا بقواطع البُرهـان
إحكام هذا الخلـق إذ إيجـاده *** في غـاية الإحكام والإتـقـان
والحكمة الأخرى فحكمة شرعه *** أيضـا وفيـها ذانك الوصـفان
ثمرات الإيمان ومعرفة هذا الاسم الكريم.
1-معرفة معنى الحكمة الحقيقي، وأنّها وضع الشّيء موضعه:
وليس معناها الرّفق كما يُفهم من كلام أكثر النّاس، بل إنّ من الحكمة التشدّد وقت الشدّة، والرّفق وقت الرّفق، لذلك قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73]، فكانت الغلظة مع هؤلاء هي عين الحكمة. وقد قال الشّاعر:
ووضع النّدى في موضع السّيف بالعُلا *** مُضرّ، كوضع السّيف في موضع النّدى
إن أنت أكرمت الكريـم ملكتـه *** وإن أنت أكرمـت اللّئيم تـمـرّدا
2- الانقياد لشرع الله تعالى:
وذلك لأنّ أفعاله وأقواله، وأوامره ونواهيه كلّها خير، وإن جهل العبد الحكمة من ذلك كلّه، فالواجب على العبدِ أن يطمئنَّ إلى كلّ أمر أمره الله به، وينتهي عن كلّ ما نهى الله عنه، لأنّه من أمر ونهي حكيم خبير، فلا يقدّم العبد على شرع الله تعالى عقلا، ولا واقعا، ولا رأيا، ولا تجربة، ولا ذوقا.
3- أنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة:
فالظّلم وضع الشّيء في غير موضعه، لذلك عَدَّ الله الشّرك ظلما، لأنّه عبادة ليست في موضعها.
وقد حرّم سبحانه الظّلم على نفسه، فقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النّساء:40] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
لذلك كان على العبد أن لا يظنّ أنّ في أوامر الشّرع ونواهيه وقدره بخسا ونقصا، وإلاّ كان قد اتّهم الله تعالى بالجهل والظّلم.
4- إنّ إثبات الحكمة لله تعالى فيه إثبات للقياس في الشّريعة:
ومن نفى الحكمة أنكر القياس كابن حزم رحمه الله، ومن نفى الحكمة وأثبت القياس كان متناقضا كالأشاعرة.
فمن الظّلم لله نفي الحكمة عنه، ومن الظّلم للشّريعة نفي القياس عنها، قال ابن القيّم رحمه الله في "أعلام الموقّعين"(1/131):
" قال تعالى:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ}، فالقياس في ضرب الأمثال من خاصّة العقل، وقد ركّز الله في فِطَر النَّاس وعقولهم التّسويةَ بين المتماثلين وإنكار التّفريق بينهما، والفرقَ بين المختلفين وإنكار الجميع بينهما، ومدار الاستدلال جميعِه على التّسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين "اهـ.
وقال في (1/195): " وأمّا أحكامُه الأمريّة الشّرعية فكلّها هكذا، تجدها مشتملة على التّسوية بين المتماثلين وإلحاق النّظير بنظيره، واعتبار الشّيء بمثله، والتّفريق بين المختلفين وعدم تسوية أحدهما بالآخر، وشريعته سبحانه منزّهة من أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه، ثمّ تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو مثلها، أو أزيَدَ منها.
فمن جوّز ذلك على الشّريعة فما عرفها حقّ معرفتها، ولا قدَرها حقّ قدرها، وكيف يُظنّ بالشّريعة أنّها تبيح شيئا لحاجة المكلّف إليه ومصلحته ثمّ تحرّم ما هو أحوج إليه، والمصلحة في إباحته أظهر ؟ وهذا من أمحل المحال "اهـ.
5- في إثبات الحكمة إغلاقٌ لباب "الحيل":
والّذي يحتال على الشّرع يطعن في حكمة الله تعالى، لذلك كان جزاؤه اللّعنة، والمسخ الحسّي والمعنوي، لأنّه قلب حقائق الأمور، فقلب الله خلقته، والصّحابة ومن تبعهم بإحسان على إبطال الحيل:
واحكـم لكلّ عامـل بنيّته *** واسدُد على المحتال بـاب حيلته
فإنّما الأعـمـال بالنيّـات *** كما جـاء فـي خبـر الثّقـات
واستمع إلى قوله تعالى:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] حتّى قال:{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166]. وجاء الشّرع بالحكم بذلك على كلّ محتال:
روى أصحاب السّنن الأربعة عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ )).
وروى ابن ماجه عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ؟)) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ: (( هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ )). فانظر كيف مسخ الله صورته المعنويّة فشبّهه بالتّيس ؟!
ومنه الاحتيال على أكل الرّبا، وذلك ببيع العينة.
ومنه الاحتيال على أكل الحرام في البيع، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: (( قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ )).
قال ابن القيّم رحمه الله في (1/196):
"ولذلك كان من المستحيل أن يشرّع الله ورسوله من الحيل ما يسقط به ما أوجبه أو يبيح به ما حرّمه، ولعن فاعلَه، وآذنه بحربه وحرب رسوله وشدّد فيه الوعيد، لما تضمّنه من المفسدة في الدّنيا والدّين، ثمّ بعد ذلك يُسوّغ التوصّل إليه بأدنى حيلة، ولو أنّ المريض اعتمد هذا فيما يحميه منه الطّبيب، ويمنعه منه لكان مُعِينًا على نفسه، ساعيا في ضرره، وعُدّ سفيها مفرطا "اهـ.
6- الجزاء من جنس العمل.
من تمام حكمة الله تعالى أنّه أجرى سنّته من باب الجزاء من جنس العمل، قال ابن القيّم رحمه الله:
(( لذلك كان الجزاء مماثلا للعمل من جنسه في الخير والشرّ، فمن ستر مسلما ستره الله، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدّنيا والآخرة، ومن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أقال نادما[2] أقاله الله عثرته يوم القيامة، ومن تتبّع عورة أخيه تتبّع الله عورته، ومن ضارّ مسلما ضارّ الله به، ومن شاقّ شاقّ الله عليه، ومن خذل مسلما في موضع يحبّ نصرته فيه خذله الله في موضع يحبّ نصرته فيه، ومن سمح سمح الله له، والرّاحمون يرحمهم الرّحمن، وإنّما يرحم الله من عباده الرّحماء، ومن أنفق أنفق عليه، ومن أوعى أوعى عليه، ومن عفا عن حقّه عفا الله له عن حقّه، ومن جاوز تجاوز الله عنه، ومن استقصى استقصى الله عليه.
فهذا شرع الله، وقدره، ووحيه، وثوابه، وعقابه، كلّه قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النّظير بالنّظير، واعتبار المثل بالمثل ))اهـ.
ولمّا كانت الحكمة معناها وضع الحكم في موضعه، ناسب أن نتحدّث عن اسم: الحكم، وذلك في حلقة مقبلة إن شاء الله.
[1] يشير إلى قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)}.
[2] قوله (نادما) أي: مسلما ندم في شرائه أو بيعه، قال في " عون المعبود ":
" ( من أقال مسلما ) أي بيعه ( أقاله الله عثرته ) أي غفر زلته وخطيئته. قال في "إنجاح الحاجة": صورة إقالة البيع إذا اشترى أحد شيئا من رجل، ثمّ ندم على اشترائه، إمّا لظهور الغبن فيه، أو لزوال حاجته إليه، أو لانعدام الثّمن، فردّ المبيع على البائع وقبل البائع ردّه، أزال الله مشقّته وعثرته يوم القيامة، لأنّه إحسان منه على المشتري، لأنّ البيع كان قد بُتَّ فلا يستطيع المشتري فسخه انتهى ".