(الدّثور) - بضمّ الدّال -: جمع دَثْرٍ- بفتحها - وهو المال الكثير.
و(البضع) - بضمّ الموحّدة - هو: الجماع، وقيل هو الفرج نفسه.
الشّرح:
صنيع المؤلّف رحمه الله يوهم أنّ مسلم انفرد بهذا الحديث، وقد رواه البخاري لكن بألفاظ أخرى.
- قوله: ( إنّ أناسا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ): في رواية البخاري عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه قال: جَاءَ الْفُقَرَاءُ إلى النَبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ !؟
وفي هذا بيان همّة الفقراء من جهة حرصهم على الخير وتنافسهم في أعمال البرّ، كما في قوله تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْض} [الحديد: من الآية21].
ومن جهة أخرى فيه بيان فضل أغنياء الصّحابة، وكيف أنّ المال الوفير لم يحملهم على ترك الفضائل، فضلا عن الواجبات؛ لذلك روى الإمام أحمد عن عمْرِو بنِ العاصِ قال: قال رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( نِعِمَّا بِالْمَالِ الصَّالِحِ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ )).
- قوله: ( أوليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون به..) في رواية البخاري قَالَ: (( أَلَا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ !؟))..
واستشكل تساوي فضل هذا الذكر بفضل التقرب بالمال مع شدة المشقّة فيه، وأجاب الكرماني بأنّه لا يلزم أن يكون الثّواب على قدر المشقة في كل حالة، واستدلّ لذلك بفضل كلمة الشّهادة مع سهولتها على كثير من العبادات الشاقّة.
ولكن قد يقال أيضا إنّ المشقّة أمر نسبيّ، فإنّ هناك من لا يجد مشقّة في التصدّق لكثرة ماله، ولا يجد مشقّة في الاعتمار والحجّ لسهولته عليه، ولكنّه يجد مشقّة عظيمة أن يرابط على ذكر الله تعالى.
قوله: ( إنّ بكلّ تسبيحة .. وتكبيرة .. وتحميدة .. ) قدّم التّكبير على التّحميد، وفي رواية: ( وتسبّحون وتحمدون وتكبّرون ) وهذا عليه أكثر الأحاديث، وفي رواية أخرى: (( يقول الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله ))، وهذا الاختلاف دالّ على أن لا ترتيب فيها.
ويؤيّده حديث الباقيات الصّالحات: (( لاَ يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ )) قال الحافظ رحمه الله:" لكن يمكن أن يقال: الأولى البداءة بالتّسبيح؛ لأنّه يتضمن نفي النقائص عن الباري سبحانه وتعالى، ثمّ التّحميد لأنّه يتضمّن إثباتَ الكمال له، إذ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال، ثمّ التّكبير إذ لا يلزم من نفي النّقائص وإثبات الكمال أن لا يكون هناك كبير آخر، ثمّ يختم بالتّهليل الدالّ على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك "اهـ.
- قوله: (.. صَدَقَةً ): الظّاهر أنّه يتحدّث عن ذكر مطلق في كلّ وقت، ودون تقييد بعدد، ولكن رواية البخاري قيّدته بقيدين:
أ) بالوقت حيث فيه ( خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ ).
ب) وبالعدد، إذ قال: ( ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ )، وسيأتي تفصيل الحديث عن ذلك إن شاء الله تعالى في بابه، وبيان ما في الحديث من الفوائد.
- قوله: ( وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ ..) قال النّووي رحمه الله:" والثواب في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أكثر منه في التّسبيح والتّحميد والتّهليل; لأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرضُ كفاية، وقد يتعيّن، ولا يتصوّر وقوعه نفلا، والتّسبيح والتّحميد والتّهليل نوافل، ومعلوم أنّ أجر الفرض أكثر من أجل النفل لقوله عزّ وجلّ في الحديث القدسيّ: (( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ )) ".
- قوله: ( وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ): في هذا دليل على أنّ المباحات تصير طاعاتٍ بالنّيات الصادقة، فالجماع يكون عبادةً إذا نوى به قضاء حقّ الزّوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه، أو إعفاف الزّوجة، ومنعهما جميعا من النّظر إلى حرام، أو الفكر فيه، أو الهمّ به، أو غير ذلك من المقاصد الصّالحة.
- قوله: ( أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ ): فيه: جواز القياس، وهو مذهب العلماء كافّة، ولم يخالف فيه إلاّ أهل الظاهر.
الفوائد:
1- في الحديث فضيلة التّسبيح، وسائر الأذكار، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر.
2- وفيه بيان فضل إحضار النيّة في المباحات.
3- وفيه ذكرُ العالِم دليلا لبعض المسائل الّتي تخفى.
4- في رواية قال:" فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إلى رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فقالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ !؟ فقالَ رَسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِهِ مَنْ يَشَاءُ )).
وفي هذه الرّواية دليل على أنّ الغنيّ الشّاكر أفضل من الفقير الصّابر.
والله الموفّق.