في تلكم الدّار الّتي أعدّها الله للمتّقين، وفي ذلك المكان الّذي بلغه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، يرى حال بعض أتباعه على الحقّ:
- رأى حال عمر رضي الله عنه: روى البخاري ومسلم عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا أَنَا بِقَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَدْخُلَهُ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِلَّا مَا أَعْلَمُ مِنْ غَيْرَتِكَ )) قَالَ: وَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟!.
- ورأى حال بلال رضي الله عنه: فقد روى الإمام أحمد عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِنَبِيِّ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَسَمِعَ مِنْ جَانِبِهَا وَجْسًا، قَالَ: (( يَا جِبْرِيلُ ! مَا هَذَا ؟ )) قَالَ: هَذَا بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ. فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ جَاءَ إِلَى النَّاسِ: ((قَدْ أَفْلَحَ بِلَالٌ ! رَأَيْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا )). بلال الّذي كان في أرض مكّة سلعةً تباع وتشترى، وتعرض في الأسواق، لا يملك بيتا، ولا يملك نفسه، لم يكن يدري أنّه يتبختر في قصور دار النّعيم.
فما أقبح حال من يغترّ بالمظاهر الزّائلة ! بالجاه .. بالأموال الطّائلة ..
وقد سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بلالا عن ذلك .. روى التّرمذي وأحمد عن بريدةَ رضي الله عنه قال: أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَدَعَا بِلَالًا، فَقَالَ:
(( يَابِلَالُ، بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ ؟ مَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَطُّ إِلَّا سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي، وَدَخَلْتُ الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي )). فقال بلالٌ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَذَّنْتُ قَطُّ إِلَّا صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأْتُ عِنْدَهَا، وَرَأَيْتُ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( بِهِمَا )).
- ورأى حال الرّميصاء رضي الله عنها:
فقد روى مسلم عن أنسٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَسَمِعْتُ خَشْفَةً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا: هَذِهِ الْغُمَيْصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنهما )).
وجمعهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرّة في حديث، فروى البخاري ومسلم عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما قال: قال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
(( رَأَيْتُنِي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ، وَسَمِعْتُ خَشَفَةً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: هَذَا بِلَالٌ، وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفِنَائِهِ جَارِيَةٌ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: لِعُمَرَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ )). فَقَالَ عُمَرُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَعَلَيْكَ أَغَارُ ؟
وفي الوقت نفسه، فقد رأى صلّى الله عليه وسلّم:
- أهوال النّار .. وأحوال أهل النّار ..
روى الإمام أحمد عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِنَبِيِّ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ... نَظَرَ فِي النَّارِ، فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ، فَقَالَ: (( مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ )) قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَرَأَى رَجُلًا أَحْمَرَ أَزْرَقَ جَعْدًا شَعِثًا إِذَا رَأَيْتَهُ، قَالَ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ: هَذَا عَاقِرُ النَّاقَةِ )).
- ورأى خازن جهنّم .. ملكٌ رهيب اسمه " مالك " عليه السّلام، لا يبتسم، وصورته لا تسرّ، ولا يُطيق أحد النّظر إليه.
روى مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: ((.. وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السّلام قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عليه السّلام قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ -، فَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ الصَّلَاةِ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ )).
- ورأى أصنافا من النّاس يُعذّبون في ذنوب نعدّها أدقّ من الشّعر ..
- ورأى المسيح الدّجّال .. روى الإمام أحمد عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَحَدَّثَهُمْ بِمَسِيرِهِ ... وَرَأَى الدَّجَّالَ فِي صُورَتِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ لَيْسَ رُؤْيَا مَنَامٍ، وَعِيسَى، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ صلوات الله عليهم، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَنِ الدَّجَّالِ، فَقَالَ: (( أَقْمَرُ هِجَانًا[1] - وفي رواية قال-: رَأَيْتُهُ فَيْلَمَانِيًّا، أَقْمَرَ، هِجَانًا، إِحْدَى عَيْنَيْهِ قَائِمَةٌ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، كَأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ )).
- ورأى الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام: ودار بينهم حوار حول الدجّال، روى الإمام أحمد والحاكم عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( لَقِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، قَالَ: فَتَذَاكَرُوا أَمْرَ السَّاعَةِ، فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا. فَرَدُّوا الْأَمْرَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا، فَرَدُّوا الْأَمْرَ إِلَى عِيسَى، فَقَالَ:
أَمَّا وَجْبَتُهَا [أي: وقوعها] فَلَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللهُ، ذَلِكَ وَفِيمَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الدَّجَّالَ خَارِجٌ، قَالَ: وَمَعِي قَضِيبَانِ، فَإِذَا رَآنِي، ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ، قَالَ: فَيُهْلِكُهُ اللَّهُ، حَتَّى إِنَّ الْحَجَرَ وَالشَّجَرَ لَيَقُولُ: يَا مُسْلِمُ إِنَّ تَحْتِي كَافِرًا فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ.
قَالَ: فَيُهْلِكُهُمْ اللَّهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَأَوْطَانِهِمْ، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَطَئُونَ بِلَادَهُمْ لَا يَأْتُونَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَهْلَكُوهُ، وَلَا يَمُرُّونَ عَلَى مَاءٍ إِلَّا شَرِبُوهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَيَّ، فَيَشْكُونَهُمْ، فَأَدْعُو اللَّهَ عَلَيْهِمْ فَيُهْلِكُهُمْ اللَّهُ وَيُمِيتُهُمْ، حَتَّى تَجْوَى الْأَرْضُ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِمْ.
قال: فَيُنْزِلُ اللَّهُ عزّ وجلّ الْمَطَرَ فَتَجْرُفُ أَجْسَادَهُمْ حَتَّى يَقْذِفَهُمْ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ تُنْسَفُ الْجِبَالُ، وَتُمَدُّ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيم.
قال: فَفِيمَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ السَّاعَةَ كَالْحَامِلِ الْمُتِمِّ، الَّتِي لَا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَى تَفْجَؤُهُمْ بِوِلَادِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا )) [سنده صحيح].
العود إلى المسجد الأقصى.
وبعد هذه الرّحلة المباركة .. في عالم الخلود .. وعالم الغيب الّذي بيننا وبينه أعظم الحدود .. عاد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المسجد الأقصى، وإليك تتمّةَ حديث أحمد عن ابن عبّاس رضي الله عنه:
قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، قَامَ يُصَلِّي، فَالْتَفَتَ، فَإِذَا النَّبِيُّونَ أَجْمَعُونَ يُصَلُّونَ مَعَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ جِيءَ بِقَدَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ الْيَمِينِ، وَالْآخَرُ عَنْ الشِّمَالِ، فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الْآخَرِ عَسَلٌ، فَأَخَذَ اللَّبَنَ، فَشَرِبَ مِنْهُ فَقَالَ الَّذِي كَانَ مَعَهُ الْقَدَحُ: (( أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ )).
ثمّ ركب البراق الماكث عند الصّخرة، فإذا هو بمكّة في زمن يخرس الأرقام .. ويعود النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والنّاس نيام ..
فماذا سيقول لهم غدا ؟!
وأيّ كفر ذلك الّذي ستشهده شمس الصّباح ؟!
وكان موعده صلّى الله عليه وسلّم مع التّكذيب مرّة أخرى.