القراءة بالتدبّر والتفهّم هو المقصود الأعظم، والمطلوب الأهمّ، وبه تنشرح الصّدور، وتستنير القلوب، قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، وقال:{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ}.
ولا يمكن الوصول إلى هذا المقصود إلاّ بترتيل القرآن، كما أمر المولى تبارك وتعالى، فقال:{وَرَتِّلْ القُرْآنَ تَرْتِيلاً}، أي: بتؤدة، وذلك حتّى لا يُسقط حرفا من حروفه.
وروى التّرمذي وغيره أنّ أُمّ سلَمة رضي الله عنها حين سُئلت عن قراءة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ( نَعَتَتْ قِرَاءَتَهُ فَإِذَا هِيَ تَنْعَتُ قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا ).
وفي صحيح البخاري سُئِلَ أَنَسٌ رضي الله عنه: كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ: ( كَانَتْ مَدًّا ) ثُمَّ قَرَأَ:{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، يَمُدُّ بِبِسْمِ اللهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ.
وفي الصّحيحين – واللّفظ لمسلم - عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ رجلا قال له: إنيّ أقرأ المفصّل في ركعة واحدة، فقال: ( هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْر، إنّ قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقِيَهم، ولكنْ إِذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع ).
وأخرج الآجرّي رحمه الله في " حملة القرآن " عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( لاَ تَنْثُروه نَثْر الدَّقْل، ولا تهذّوه هذّ الشّعر، قِفُوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب، ولا يكون همّ أحدكم آخر السّورة ).
قال النّوويّ رحمه الله في " المجموع " (2/165):
" واتّفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع، ويُسمّى الهذّ. قالوا: وقراءة جزء بترتيل، أفضل من قراءة جزئين في قدر ذلك الزمان بلا ترتيل.
قال العلماء: والتّرتيل مستحبٌّ للتدبّر، ولأنّه أقرب إلى الإجلال والتّوقير، وأشدّ تأثيرا في القلب. ولهذا يُستحبّ التّرتيل للأعجميّ الذي لا يَفهم معناه.
ويستحبّ إذا مرّ بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مرّ بآية عذاب أن يستعيذ من العذاب أو من الشرّ ونحو ذلك، وإذا مرّ بآية تنزيه لله تعالى نزّه، فقال: تبارك الله ! أوجلّت عظمة ربّنا، ونحو ذلك. وهذا مستحبّ لكل قارئ، سواء في الصّلاة وخارجها، وسواء الإمام والمأموم والمنفرد " اهـ.
ويدلّ على ما ذكره رحمه الله:
- ما أخرجه مسلم عن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قال:
" صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ ..."
- وروى النّسائي وغيره عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال:" قُمْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَبَدَأَ فَاسْتَاكَ، وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، فَبَدَأَ فَاسْتَفْتَحَ مِنْ الْبَقَرَةِ، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ يَتَعَوَّذُ، ثُمَّ رَكَعَ ...".
- وأخرج الترمذي والحاكم عن جَابِرٍ رضي الله عنه قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَسَكَتُوا، فَقَالَ:
(( لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، قَالُوا: لَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ )).
· الأدب الثّامن: تحسين الصّوت بالقراءة وتزيينُها.
فقد روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ )).
ولحديث ابن حبان وغيره: (( زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ )).
وفي لفظ عند الدارمي: (( حَسِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، فَإِنَّ الصَّوْتَ الحَسَنَ يَزيدُ القُرْآنَ حُسْناً )).
وقد بيّن لنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الضّابط في معرفة حَسَنِ الصّوت، فقد روى ابن ماجه عن جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ: الَّذِي إِذَا سَمِعْتُمُوهُ يَقْرَأُ حَسِبْتُمُوهُ يَخْشَى اللَّهَ )).
فإن لم يكن حسنَ الصَّوت حسَّنه ما استطاع، بشرطين:
1- ألاّ يصِل به ذلك إلى حدّ التمطيط !
جاء في " روضة الطّالبين " للنّووي رحمه الله:" قال جمهور الأصحاب:... المكروه: أن يُفرِط في المدّ، وفي إشباع الحركات؛ حتّى تتولّد من الفتحة ألف، ومن الضمّ واو، ومن الكسرة ياء، أو يُدغِم في غير موضع الإدغام، فإنْ لم ينتَهِ إلى هذا الحدّ فلا كراهة " اهـ.
ثمّ قال رحمه الله:" والصّحيح أنّ الإفراط على الوجه المذكور حرام يفسق به القارئ، ويأثم المستمع، لأنّه عدل به عن نهجه القويم، قال: وهذا مراد الشّافعي بالكراهة "اهـ.
2- أن يجتنب الألحان المُصطنعة ( المقـامـات ): فمن أوصاف القرآن أنّه كريم وعزيز، وعظيم، فيعلو على كلّ شيء، ويحتاج إليه كلّ شيء، فلا ينبغي أن ينزل به قارئه إلى حضيض ألحان الأغاني.
فترى الكثيرين خرجوا عن الحدّ المشروع، فراحوا يُخضِعون القرآن لألحان أهل الغناء والمقامات, مثل: البيات, والناري, والسيكاه, والحكيمي, والديوان, والمخالف, والجبوري, والمدمي, والخناجات, والأبراهمي, والمنصوري, والعجم, والصبا, والحجاز, والمثنوي, والرّست, والشّور، وغيرها.
والأخبار في النّهي عن ذلك كثيرة، منها:
- ما رواه الطّبراني في " الأوسط " عن عابسٍ الغفاريّ رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا: إِمَارَةَ السُّفَهَاءِ، وَكَثْرَةَ الشُّرَطِ، وَبَيْعَ الحُكْمِ، وَاسْتِخْفَافاً بِالدَّمِ، وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وَنَشْواً يَتَّخِذُونَ القُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لِيُغَنِّيَهُمْ ! وَإِنْ كَانَ أَقَلَّهُمْ فِقْهاً )) [قال الألباني رحمه الله في " صحيح الجامع " (5123): صحيح].
- وجاء زياد النّهدي إلى أنس رضي الله عنه مع القرّاء، فقيل له: اقرأ، فرفع زيادٌ صوتَه بالقراءة وطرب ! وكان رفيع الصّوت، فكشف أنسٌ عن وجهه - وكان على وجهه خرقة سوداء - وقال: يا هذا، ما هكذا كانوا يفعلون ! وكان أنس إذا رأى شيئاً ينكره رفع الخرقة عن وجهه " [" زاد المعاد " (1/137)].
وقد ورد أحاديث في تحريم ذلك، وفي أسانيدها نظرٌ، ولكنّه تواتر عن السّلف النّهي عن قراءة القرآن على هذا النّمط الممنوع، منها:
- ما رواه الخلاّل في " الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ": أنّ الإمام أحمد رحمه الله سُئل عن القراءة بالألحان ؟ فقال: ( هو بدعةٌ ومحدثٌ)، قيل له: تكرهه يا أبا عبد الله ؟ قال: نعم، أكرهه، إلاّ ما كان من طبع، كما كان أبو موسى، فأمّا من يتعلّمه بالألحان فمكروه.
والكراهة عند السّلف تعنني الحرمة، كما هو مقرّر.
- وروى أيضا عن عبد الرّحمن المتطبب قال: قلت لأبي عبد الله – يعني الإمام أحمد - في قراءة الألحان ؟ فقال:" يا أبا الفضل، اتّخذوه أغاني ! اتّخذوه أغاني ! لا تسمع من هؤلاء ".
- وروى عن محمّد بن الهيثم قال:" لأن أسمعَ الغناء أحبّ إلَيّ من أن أسمع قراءة الألحان ".
- قال الشّيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله في كتابة " بدع القرّاء ":
" التّلحينُ في القراءة تلحينَ الغناء والشَّعر: وهو مسقِطٌ للعدالة, ومن أسباب ردّ الشّهادة قَضَاءً. وكان أوّل حدوث هذه البدعة في القرن الرّابع على أيدي الموالي "اهـ.
- وقد سئل الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: ما يقول سماحتكم في قارئ القرآن بواسطة مقامات هي أشبه بالمقامات الغنائية، بل هي مأخـوذة منها، أفيدونا جزاكم الله خيرا ؟ فأجاب رحمه الله:
" لا يجوز للمؤمن أن يقرأ القرآن بألحان الغناء وطريقة المُغنّين، بل يجب أن يقرأه كما قرأه سلفنا الصالح من أصحاب الرّسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، فيقرأه مُرتّلاً, مُتحزّناً, مُتخشّعاً، حتّى يؤثّر في القلوب الّتي تسمعه، وحتّى يتأثّر هو بذلك.
أمّا أن يقرأه على صفة المغنّين وعلى طريقتهم فهذا لا يجوز "اهـ.
[" مجموع فتاوى ومقالات الشّيخ ابن باز رحمه الله"].
· الأدب التّاسع: الاعتدال في رفع الصّوت.
وردت أحاديث تدلّ على استحباب رفع الصّوت بالقراءة، وأحاديث أخرى تأمر بالإسرار وخفض الصّوت.
فمن الأوّل: حديث الصّحيحين عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ، يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ )) [أَذِنَ: سمع، كقوله تعالى:{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وحُقَّتْ}].
ومن الثّاني: حديث أبي داود والتّرمذي والنّسائي عن عقبة بن عامر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الجَاهِرُ بِالقُرْآنِ كَالجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالمُسِرُّ بِالقُرْآنِ كَالمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ )).
قال النّووي رحمه الله:
" والجمع بينهما: أنّ الإخفاء أفضلُ حيث خافَ الرّياء، أو تأذّى مصلّون أو نِيامٌ بجهره، والجهر أفضل في غير ذلك.
لأنّ العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدّى إلى السّامعين، ولأنّه يوقِظُ قلب القارئ، ويجمع همّه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النّوم، ويزيد في النّشاط ".
ويدلّ لهذا الجمع ما يلي:
- ما رواه أبو داود عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: اعْتَكَفَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَالَ: (( أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ )).
- وروى التّرمذي وأبو داود عَنْ أبي قتادةَ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لأَبي بكرٍ رضي الله عنه: (( مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ، وَأَنْتَ تَخْفِضُ مِنْ صَوْتِكَ ؟))، فَقَالَ إِنِّي: أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ. قَالَ: (( ارْفَعْ قَلِيلًا )). وقال لعمرَ رضي الله عنه: (( مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ، وَأَنْتَ تَرْفَعُ صَوْتَكَ ؟)) قال: إِنِّي أُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، قَالَ: (( اخْفِضْ قَلِيلًا )).
· الأدب العاشر: القراءة من المصحف.
أن يقرأ القارئ من المصحف الشّريف أفضلُ من القراءة من حفظه، لأنّ النّظر في المصحف عبادةٌ مقصودة، لما أخرجه البيهقيّ عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ فَلْيَقْرَأْ فِي المُصْحَفِ )) [" الصّحيحة " (5/2342)] .
قال النّووي رحمه الله:" هكذا قاله أصحابنا، والسّلف أيضا، ولم أر فيه خلافا. قال: ولو قيل: إنّه يختلف باختلاف الأشخاص:
فيُختار القراءة فيه لمن استوى خشوعُه وتدبُّرُه في حالتَيْ القراءة فيه ومن الحفظ.
ويُختار القراءة من الحفظ لمن يكمُلُ بذلك خشوعُه، ويزيد على خشوعه وتدبُّرِه لو قرأ من المصحف لكان هذا قولا حسنا.
والله الموفّق لا ربّ سواه.