ففي قصّة أصحاب الأخدود رسالةٌ أرسل بها إلينا ذلكم الرّاهبُ تذكّرنا بهذه الحقيقة، حيث قال للغلام: ( أَيْ بُنَيَّ، أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى ) [رواه مسلم].
2- أمّا أنّه لا بدّ من الثّقة في وعد ربّ السّماء ..
* فتأمّل قصّة أصحاب الأخدود أيضا، تجِدْ أنّ الثّقة بالله حقيقةٌ أراد الله عزّ وجلّ إيصالَها إلى العِباد، فأنطق من أجل ذلك مَنْ لا يمكنه أن ينطق عادةً ..
فيوم آمن النّاس بربّ الغلام، ( أَمَرَ المَلِكُ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ، وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا ! فَفَعَلُوا، حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: (( يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ ))..[رواه مسلم].
* وصبيّ آخر أرسل بهذه الحقيقة نفسها إلى العالمَ في زمن آخر ومكان آخر ..
روى الإمام أحمد، وابن حبّان، والطّبراني وغيرهم من طرق تتقوّى بمجموعها عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:
( إِنَّ رَسُولَ اللهِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَرَّ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ فَقَالَ:
(( يَا جِبْرِيلُ ! مَا هَذِهِ الرِّيحُ ؟ )).
قَالَ: هَذِهِ رِيحُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلاَدِهَا: بَيْنَمَا هِيَ تَمْشُطُ بِنْتَ فِرْعَوْنَ إِذْ سَقَطَ المِدْرَى[1] مِنْ يَدِهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللهِ !
فَقَالَتْ بِنْتُ فِرْعَوْنَ: أَبِي ؟ قَالَتْ: بَلْ رَبِّي وَرَبُّكِ اللهُ.
قَالَتْ: وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرَ أَبِي ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، اللهُ. قَالَتْ: فَأُخْبِرُ بِذَلِكَ أَبِي ؟ قَالَتْ: نَعَمْ ! فَأَخْبَرَتْهُ.
فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَقَالَ: أَلَكِ رَبٌّ غَيْرِي ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ.
فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ[2] مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، فَجَعَلَ يُلْقِي وَلَدَهَا وَاحِدًا وَاحِدًا، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى وَلَدٍ لَهَا رَضِيعٍ، فَقَالَ:يَا أُمَّاهُ اُثْبُتِي فَإِنَّكِ عَلَى الحَقِّ !.
3- وذكرنا أنّ من فقه هذه الواقعة: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جعل مجرّد الدّعاء والاستنصار استعجالا، فكيف بمن يريد أن يقابل الحديد بالحديد .. والسّلاح بالسّلاح في مرحلة الضّعف وانعدام الشّوكة ؟! فلا شكّ أنّه أكثر استعجالا، وأبعد عن النّصر والفتح.
فمن تعرّض للبلاء فله أسوة في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه .. وليس له أن يُعرِّض الدّعوة الإسلاميّة إلى أن تصطدم بالقوّة فتدفن في مهدها ..
وقد قيل: إذا كان بيتك من زجاج، فلا تضربْ النّاس بالحجارة ..
فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رأى من البلاء ما لا يخطر ببال، ما جعله يقول: (( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ )) [رواه أحمد والتّرمذي وابن ماجه عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه].
وروى البخاري ومسلم عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنه عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ؟ قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ يُصَلِّي، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ، فَقَالَ:{ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}.
والله تعالى في عليائه، فوق سمواته، ينظر إلى أحبّ الخلق إليه، يُعذّبون، ويُضطَهدون، على يد أبغض الخلق إليه: أبي لهب، وأميّة بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة..ولكنّ الله هو القائل:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}. [العنكبوت]..
وكان من أشرس أولئك عمرو بن هشام، الّذي كان يتلذّذ بتعذيب المؤمنين .. وكانت له هيبة في قلوب النّاس أجمعين، يخشون غضبه، ويهابون سطوته..
وكان هناك رجل لا يقلّ عنه هيبة .. إنّه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ..
لعلّكم تذكرون ذلكم الرّجل العظيم: زيد بن عمرو بن نفيل، الذي خلّف رجلا عظيما مثله، وهو سعيد بن زيد رضي الله عنه.
كان قد تزوّج من أخت عمر فاطمةَ بنت الخطّاب، ثمّ سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجد بغيته، وأدرك راحته، فكان من السّابقين إلى الإسلام، ودعا زوجه إلى الإيمان بالله فسارعت إلى الاستجابة، فكانت أسرة سعيدة بالإيمان والانقياد للرّحمن.
وبعد مضيّ مدّة من الزّمن .. تسرّب الخبر إلى عمر رضي الله عنه .. فتطاير الشّرر من عينيه، ويديه، وبدأ بتعذيب أخته وزوجها، فلن يقبل عمر بدخول العار إلى بيته ..
ولكنّ وسائل عمر كلّها فشلت .. فالقلوب لا تدخلها السِّياط، والمبادئ لا يُثنيها الحديد .. أحضر الأغلال والقيود والحبال، وقيّدهما !
روى البخاري ومسلم عن سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قاَلَ: ( لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنَّ عُمَرَ مُوثِقِي أَناَ وَأُخْتَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ).
والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يطيل التّأمّل في أصحابه، يُفتّش عن أحد ينصرهم، ويفكّ الأغلال عنهم .. ولكنّه ما وجد إلاّ أتباعا مضطهدين ..
إنّ الطّيور والبهائم تطوف في مكّة آمنة، أمّا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ففي الشّعاب هائمون ..
ألم تر إلى جهر أبي جهل بالعداوة قائلا: ( لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ )..
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ ! فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى ! لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ ).
وصدق الله عزّ وجلّ حين وصف حالهم قائلا:{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6].
عندئذ كان لا بدّ من الدّعاء، والتضرّع إلى ربّ السّماء ..
وكانت أمنيّته تحوم حول أقسى رجلين وأشرسهما في مكّة كلّها على المؤمنين، فدعا ربّه قائلا: (( اللَّهُمَّ أَعِزّ الإِسْلاَمَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ: أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، أَوْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ))..[رواه أحمد، والبيهقي (2/215)، وابن سعد (3/267)].
وسيُجيب الله الدّعاء بعد أيّام ..
وعلم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ مكّة هذه الأيّام قد بخلت بأبنائها، وشحّت برجالها .. وعلِم أنّ الإسلام لا يرتبط بمكّة، ولا بأيّ أرض .. فلا حرج على هؤلاء المستضعفين أن يهاجروا في أرض الله الواسعة .. ولكن إلى أين ؟!
إلى الحبشة .. وهي الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة.