وقد حذّر الله عزّ وجلّ من هؤلاء في كتابه، فقال:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه} [آل عمران: من الآية7]. وفي الصّحيحين عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالتْ: تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ؛ فَاحْذَرُوهُمْ )).
فربّما فسّر كلام الله على غير مراده، كما هو حال أهل الإلحاد، من الباطنيّة والاتّحاد، أو أهل التّأويل كالمعنزلة والأشاعرة وغيرهم.
ألا ترى كيف فسّر الباطنيّة قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: من 23] أنّ المراد: حكم الله أنّه ما عبد أحد شيئا إلاّ وهو يعبد الله، فالمجوس لمّا عبدوا النّار ما عبدوا إلاّ الواحد القهّار ! وكذلك تأويلهم لنصوص اليوم الآخر، وللأسماء والصّفات، وغير ذلك ممّا لا يُحصى.
2- التجرّد عن الهوى:
فربّما كان المفسِّر على اعتقاد سليم في باب الأسماء والصّفات، والإيمان باليوم الآخر وغير ذلك، ولكنّه ابتُلي بالعصبيّة للمذهب والشّيخ، أو بالضّعف أمام سلطان الجاه والمال، فتراه يحمل آيات الله على وفق مراده، فيشتري بآيات الله ثمنا قليلا، كمن أحلّ قليل الرّبا مستدلاّ بقوله تعالى:{لاَ تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران: من الآية130]، قال: إنّما حرّم الله الرّبا المضاعف لا القليل !
3- أن يفسّر القرآن بالقرآن والسنّة:
فليس هناك أعلم بمراد الله تعالى من الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فما أطلق في موضع ربّما قيّد في موضع آخر، أو في السنّة، وكذلك ما عمّم، وما أجمل، وهذا لا شكّ أنّه يتطلّب من المرء الاعتناء بالقرآن من أوّله إلى آخره، وبالسنّة رواية ودراية.
مثال على ذلك: قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّم} [المائدة: من الآية3]، فالميتة والدمّ لفظان عامّان، جاء في القرآن ما يقيّد كلاّ منهما:
فميتة البحر قال تعالى فيها:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُم} [المائدة: من الآية96].
وقيّد الدّم بقوله في سورة الأنعام:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: من الآية145].
والسنّة خصّت من عموم القرآن كذلك، فقد روى ابن ماجه عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنه - والعلماء يرجّحون وقفه ولكنّه في حكم المرفوع - قال: (( أُحِلَّتْ لَكُمْ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ )).
والأمثلة من السنّة كثيرة جدّا، إمّا أن تخصّص العمومات كما ذكرنا، أو تبيّن المعنى، كتفسيره صلّى الله عليه وسلّم لقوله تعالى:{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8] بأنّه مجرّد عرض الأعمال، وتفسيره للظّلم في قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فسّره بالشّرك كما في قوله تعالى على لسان لقمان:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: من الآية13]، وغير ذلك من الآيات.
4- أن يفسّره بكلام الصّحابة رضي الله عنهم:
فهم جمعوا بين أمرين عظيمين: حسن الفهم، وحسن القصد، وظهر من بعدهم: سوء الفهم وهو الجهل، وسوء القصد وهو الظّلم.
فلا يُعدل إلى كلام غيرهم إن صحّ السّند إليهم، وعلى رأسهم:
تفسير الخلفاء الأربعة.
وابن مسعود الّذي جاء في صحيح البخاري ومسلم عنهُ رضي الله عنه أنّهُ قالَ:" وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَلَا أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ تُبَلِّغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ ".
وابن عبّاس رضي الله عنه، فقد روى البخاري عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنه قال: ضَمَّنِي رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وقالَ: (( اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ ))، ويأتي بعدهم أبيّ بن كعب رضي الله عنه، ثمّ غيرهم.
5- الاعتناء بأقوال التّابعين:
فإذا لم يجد المفسّر عن الصّحابة خبرا، ولم يلق لهم أثرا، اعتمد كلام تلامذة هؤلاء الصّحابة:
فمن أشهر تلاميذ ابن عبّاس رضي الله عنه بمكّة: سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عبّاس، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس بن كيسان.
ومن أشهر تلاميذ ابن مسعود رضي الله عنه بالكوفة: علقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، ومسروق بن الأجدع، عامر الشّعبي، ومنهم من يضف قتادة بن دعامة، والصّواب أنّه لم يأخذ عنه مباشرة، وإنّما أخذ عن تلامذته.
وأشهر تلاميذ أبيّ بن كعب رضي الله عنه بالمدينة: زيد بن أسلم، وأبو العالية، ومحمّد بن كعب القرظي.
6- العلم باللّغة العربيّة:
ذلك؛ لأنّ القرآن عربيّ، ولا يعني ذلك الاعتناء بالألفاظ الغريبة، ولكن لا بدّ أن يعرف أسلوب التّخاطب بين العرب، فإنّ الإنشاء قد يراد منه الخبر، والخبر قد يراد منه الإنشاء، ولا بدّ من معرفة ضوابط وشروط المجاز، كما أنّ المقصود من ذلك معرفة قدر لا بأس به من حياة العرب، ومن الأمثلة على ذلك:
قوله تعالى:{وَمَا قَتَلُوه يَقِيناً} فالمطّلع على أساليب العرب يعلم أنّ الضّمير يعود على الظنّ، لا على عيسى عليه السّلام.
ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَه كَانَ آمِناً}، فهو خبر يراد منه الأمر.
ولذلك يروي ابن أبي حاتم في " تفسيره " بسند ضعيف والطّبريّ من طريق أخرى عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّه قال:" التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلاّ الله ".
فائدة:
إنّ المتأمّل في كتب التّفسير يُدرك أثر ازدهار اللّغة على فهم وتفسير كلام الله تعالى، فيوم كان اللّغة في أوجّ كمالها وجمالها، كان تفسير الصّحابة والتّابعين وأتباعهم غايةً في إصابة المعاني، وحين انحطّ الأدب العربي، وظهر فيه نحو قول القائل:
عجب، عجب، عجب *** بقـرٌ تمشي ولها ذَنَبُ
والنّـاقة لا منقـار لها *** والوزّة ليس لها قتب
حينئذٍ ضاعت معالم هذا العلم، ولم يعُد يطفو على سطحه إلاّ تفاسير أهل الكلام ومتعصّبة الفقهاء وحواشٍ ما لها من قرار.
7- العلم بالعلوم المتّصلة بالقرآن:
كعلم النّاسخ والمنسوخ، والقراءات، وقواعد التّفسير، وأسباب النّزول.
8- دقّة الفهم:
وهذا ما يسمّيه الشّافعيّ رحمه الله بجودة القريحة، كالاستنباط الّذي ينقل عن العلماء في كثير من الآيات، فقد استنبطوا أكثر من ثلاث وعشرين حكما من قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} ..[الآية من البقرة:233]، واستنبطوا من قوله تعالى:{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ} أنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، واستنبطوا من قوله تعالى:{وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تقتله اليهود، وغير ذلك.
والله الموفّق لا ربّ سواه.