فمن خلال هذه النصوص يتبيّن لنا أنّ اللّطيف له معنيان، يقتضي أحدهما الآخر:
- المعنى الأوّل: من اللّطف بمعنى الرّفق.
قال في "لسان العرب":" ومعناه - والله أعلم -: الرّفيق بعباده، قال أبو عمرو: اللّطيف الذي يُوصِل إليك أَرْبك في رفق، و"اللّطف" من الله تعالى: التّوفيق والعصمة.. والّلطف: البرّ والتكرمة والتحفّي، لطف به لطفا ولطافة.
وممّا جاء في استعمال اللّطف بمعنى (الرّفق والرّأفة): ما رواه أبو داود والنّسائي عن ابن عبّاس رضي الله عنه:
أَنَّ أَعْمَى كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَكَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ لَهُ مِنْهَا ابْنَانِ، وَكَانَتْ تُكْثِرُ الْوَقِيعَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ! وَتَسُبُّهُ !
فيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، وَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي.
فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ ذَكَرْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فَوَقَعَتْ فِيهِ، قال: فَلَمْ أَصْبِرْ أَنْ قُمْتُ إِلَى الْمِغْوَلِ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا، فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُهَا، فَأَصْبَحَتْ قَتِيلًا.
فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَجَمَعَ النَّاسَ، وَقَالَ:
(( أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا لِي عَلَيْهِ حَقٌّ فَعَلَ مَا فَعَلَ إِلَّا قَامَ )).
فَأَقْبَلَ الْأَعْمَى يَتَدَلْدَلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ أُمَّ وَلَدِي وَكَانَتْ بِي لَطِيفَةً رَفِيقَةً، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُكْثِرُ الْوَقِيعَةَ فِيكَ وَتَشْتُمُكَ فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ فَلَمَّا كَانَتْ الْبَارِحَةُ ذَكَرْتُكَ فَوَقَعَتْ فِيكَ فَقُمْتُ إِلَى الْمِغْوَلِ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ )).
ومن ذلك أيضا ما رواه البخاري في قصّة الإفك قالت عائشة رضي الله عنها: فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَرَى مِنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: (( كَيْفَ تِيكُمْ ؟)).
- المعنى الثّاني: العلم بدقائق الأشياء.
قال ابن الأثير رحمه الله:" اللّطيف هو الذي اجتمع له الرّفق في الفعل، والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى من قدّرها له من خلقه، يقال لطَف به وله-بالفتح- يلطُف لُطْفًا إذا رفق به.
فأمّا لطُف - بالضمّ - يلطُف فمعناه صغُر ودقًّ، واللّطيف من الكلام ما غمض معناه وخفي، وكلّ جسم خفيّ يسمّى لطيف ".
وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]..
ومنه ما رواه البخاري تعليقا - ووصله ابن أبي حاتم - عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال في تفسير قوله تعالى:{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: من الآية47] قال: حفيّا: لطيفا.
ومرّة روى عنه أنّه فسّر ( البَرّ ) بـ ( اللّطيف ).
وبهذين المعنيين يوصف الله تبارك وتعالى:قال الشّيخ السّعدي رحمه الله في "تفسيره" إنّه:" اللّطيف بعباده المؤمنين، الموصل إليهم مصالحهم بلطفه وإحسانه من طرق لا يشعرون بها، فهو بمعنى الخبير وبمعنى الرّؤوف".
وقال في موضع آخر:" الّذي أحاط علمه بالسّرائر والخفايا، وأدرك الخبايا والبواطن، والأمور الدّقيقة ".
قال ابن القيّم رحمه الله في "النّونية" (2/85):
وهـو اللّطيف بعبده ولعبده واللّـطـــف في أوصـافــه نــوعـــان
إدراك أسـرار الأمـور بخبـرة واللُّـطــف عنـد مواقــع الإحســان
فيريك عزّته ويُبـدي لُطـفــه والعبد في الغفلات عن ذا الشّان
* ثمرات الإيمان بهذا الاسم الكريم:
ثمرات معرفة هذا الاسم هي نفسها الّتي يجنيها المؤمن من معرفة اسم الله ( الخبير )، ولكنّ هناك أمرا زائدا:
أنّ الله رفيق بأوليائه في ابتلائه:
فهو يريد أن يُتِمَّ عليه إحسانه، ويشمله بكرمه، فييسّره لليسرى، ويجنّبه العُسرى، ويُجري عليه من أنواع المحن، وأصناف الفتن الّتي يكرهها وتشقّ عليه، وهي عين صلاحه، والطّريق إلى سعادته.
لا يختلف حال المؤمن الصّالح عن حال الّذين امتحنهم الله من الأنبياء بأذى قومهم، وبالجهاد في سبيله.
لذلك ختم يوسف عليه السّلام محنته بقوله:{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: من الآية100]، فكلّ ما حدث كانت نتيجته أن قال فيه الله:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: من الآية76]، وكانت العاقبة:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف: من الآية100]..
فكم لله من لطف وكرم لا تدركه الأفهام، ولا تتصوّره الأوهام !
وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدّنيا من ولاية، أو رئاسة، أو سبب من الأسباب المحبوبة، فيصرفه الله عنها، ويصرفها عنه، رحمةً به لئلاّ تضرّه في دينه!
فيظلّ العبد حزينا من جهله وعدم معرفته بربّه، ولو علم ما ذُخر له في الغيب لحمد الله وشكره على ذلك، فإنّ الله رؤوف بعباده، لطيف بأوليائه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)} [سورة الطّلاق]..
وهذه الصّفات الثّابتة بهذه الأسماء تدلّ عليها أسماء أخرى، سوف نراها إن شاء الله لاحقا.