لقد اتّخذت الكاتبة من مقال كتبه الشيخ ابن باديس أظهر فيه جوانب العظمة عند مصطفى كمال ذريعة للطعن في منهجه، وغلت في التشنيع والإنكار وتعديد أوجهه، وقد أبانت عن تحامل واضح وتكلُّف ظاهر في مسألة لا أظنّها ذات وزن كبير في الحكم على منهج ابن باديس.
ولست أوافق ابن باديس أصلا على الكتابة في هذا الموضوع بالطريقة الّتي سلك مهما كان القصد، وذلك على الأقلّ من باب قول القائل:" إيّاك وما يعتذر منه "، لكنّي أعلم أنّ للشيخ رحمه الله عذرا في ذلك، بل أعذارا، ومن أدب الإسلام أنّك إن رأيت خطأ من أخيك أن تلتمس له الأعذار، فإن لم تجد له قلت: لعلّ له عذرا، فكيف بعالم من كبار علماء الزمان وأحد مجدّدي القرن في الغرب الإسلامي ؟ وهذا ما أحاول توضيحه في هذا المبحث.
المطلب الأول: مقصد ابن باديس وعذره.
فأقول إنّ الشيخ ابن باديس قد نشر مقالا في جريدة "النّجاح" عدد 152 بتاريخ 28 مارس 1924م، بعد أن بلغه خبر سقوط الدّولة العثمانية سمّاه:" الفاجعة الكبرى، أو جنايات الكماليين على الإسلام والمسلمين ومروقهم من الدّين ".
وهذا حكم منه بردّة مصطفى كمال وأتباعه عن الإسلام، وسيأتي نقله برمّته، ولكنّه خفّف اللّهجة بعد ذلك في المقال الّذي كتبه عام هلاك مصطفى كمال، والّذي ينبغي على كل منصف ومبتغ لتحرّي الحقائق أن يتساءل أوّلا: ما سر هذا التحوّل في اللّهجة الّتي تحدّث بها عن هذا الرجل؟ حيث صرّح أوّلا بكفره، وسكت آخرا عن التّصريح بذلك ؟!
ولقد رأيت أن أتتبع كلّ ما قاله ابن باديس عن هذا الرّجل، وكذا كلّ ما كتب في "الشّهاب" عنه في مدَّة حكمه، لعلِّي أجد العذر الّذي أبحث عنه، ولقد وجدت في "الشّهاب" أشياء ربّما هي الّتي جعلت الشّيخ يتوّرع عن التّصريح بكفر مصطفى كمال، مع إقراره بخطئه وضلاله، وسأنقلها لأهل الإنصاف، وليسهل فهم مراد ابن باديس بتلك الترجمة، وسرّ تراجعه عن اللّهجة الشّديدة.
فأمّا تعظيم مصطفى كمال: فإنّه لم يكن تعظيما من كلّ وجه كما أوهمت الكاتبة المتحاملة، بل كان منصبًّا على جوانب سمّاها ( جوانب العظمة ) وهي جوانب دنيويّة وقوميّة بحتة، فالرّجل قَلَبَ كلّ الموازين، وتحرّر من كلّ القيود - بما فيها الدينيّة - وهزم أعداء قومه المستعمرين، وحدَّث وسائل التعليم وأدخل عناصر المدنية إلى بلده ... الخ
ومن الممكن جدّا أن يكون الشّيخ قد رمى إلى تشجيع الشباب من قرّاء "الشّهاب" إلى التفكير في الانقلاب على الأوضاع السائدة، وأن لا يخضعوا إلى الواقع المرّ الّذي فرضه الاستعمار الفرنسيّ على أنّه قدرٌ لا مفرّ منه، ولا مخرج إلاّ بظهور المهدي !
وكأنّي بابن باديس يقول لأمّته المغلوبة المقهورة بلغة ذكيّة: انهضي وقومي على هذا الاستعمار ! أليس في الجزائريّين من يمكن أن يكون مثل مصطفى كمال في الثورة على العدو ؟! ويؤيّد هذا الاحتمال أنّ الشّيخ في عام 1924 م نفسه لمّا كتب عن الدّعوة الوهّابيّة، قال في أثناء مقاله الثّاني:
" ويجب أن نعلن بأنّ الفضل الأوّل في هذا كلّه للرّجل الكريم، والبطل العظيم: السّلطان عبد العزيز بن عبد الرّحمن آل فيصل آل سعود، الّذي لا نشكّ أنّه سيكون إن شاء الله تعالى في تاريخ العرب ما كان لمصطفى كمال في تاريخ التّرك، فالأمّة العربيّة اليوم تعتبر هذا الأمير العظيم زعيمها الحقيقي الوحيد، وتعلّق عليه الآمال الكبار " ["الآثار" (5/31)].
ولا يقولنّ قائل إنّ في تزكيته لمصطفى كمال تغريرا بالنّاس، لأنّنا نعتبر هذا الكلام ضربا من الوسوسة، ولقد كان هذا ممكنا لو كان ابن باديس هو الوحيد الّذي فُوِّض إليه أمر الكتابة والتحدّث عن مصطفى كمال، وكذا لو كان ابن باديس لم يبيّن انحرافه في مجال الدّين بل وكفره، وهو إذا كتب –كما كتب غيره- لم يكن في حاجة إلى تكرار كلّ ما قيل عن مصطفى كمال، وإنّما هو يكتب في أشياء معيّنة قصد بيانها، ومع ذلك نجده يحترز ويدخل في مقاله عبارات تدفع تلك الأوهام، فقد تكلّم عن الخلافة يوما فقال:
"فيوم ألغى الأتراك الخلافة - ولسنا نبرّر كلّ أعمالهم - لم يلغوا الخلافة الإسلاميّة بمعناها الإسلامي، وإنمّا ألغوا نظاما حكوميّا خاصّا بهم، وأزالوا رمزا خياليا فتن به المسلمون لغير جدوى، وحاربتهم من أجله الدول الغربيّة المتعصّبة والمتخوفة من شبح الإسلام" ["الآثار" (5/382)].
فإن قيل: كان الواجب على الشيخ أن يبيّن حال مصطفى كمال الّذي مدح فيه هذه الصفات. فيقال: هذا المطلوب توضيحُه كان واضحا، رآه الأعمى بعينه في ظلمة اللّيل الحالك، وهل نحتاج ونحن نذكر بعض محاسن أبي الحسن الأشعريّ - كردّه على المعتزلة وفضحهم في باب القدر وغيره - أن نقول: لكن احذروا هو ليس بسلفي وإنّما هو أشعري ! إنّ هذا لون من البلادة.
ولهذا جواب آخر يظهر في هذا المقال الآتي وهو: أنّ ابن باديس قد شرح موقفَه من إسقاط الخلافة، فلم يحتج إلى تكرار.
المطلب الثاني: مقال براءة الذمة.
قال ابن باديس رحمه الله:" إنّ الإسلام لا يقدِّس الرجال وإنمّا يسير الأعمال، فلئن والينا الكماليّين بالأمس ومدحناهم، فلأنّهم يذبّون عن حمى الخلافة وينتشلون أمّة إسلاميّة عظيمة من مخالب الظّالمين، وقد سمعناهم يقولون في دستورهم:" إنّ دين الدّولة الرسميّ هو الإسلام ".
ولئن تبرّأنا منهم اليوم وعاديناهم؛ فلأنّهم تبرّؤوا من الدّين، وخلعوا خليفة المسلمين، فكانوا ممّن عمل بعمل أهل الجنّة حتّى لم يبق بينه وبينها إلاّ ذراع، فعمل بعمل أهل النّار، فكان من الخاسرين، وإنّما الأمور بخواتمها والعاقبة للمتّقين.
ما كنّا قطّ نجهل عقيدة الشبيبة التركيّة المتفرنجة، ولا مبادئها اللاّدينيّة، وكيف يجهل ذلك منها، وقد حفظ التّاريخ في متون الصّحف وبطون المجّلات خُطَبَ زعمائها بالتأفّف من الدّين، والغمز في مبادئ الإسلام من خطب زعماء الاتحاديّين، إلى آخر خطبة رأيناها في جريدة "الأهرام" من خطب كمال ؟ أم كيف تخفى مقاصدُهم وقد فتحوا عهد دستورهم بعد عبد الحميد بمحو كلمة الشّهادة من رايات الجيش ! وختموها هاته الأيّام بنبذ النّظام العائلي الإسلاميّ في مسائل الزّواج، وإباحتهم التبرّج للنّساء، واختلاطهنّ بالرّجال في المراسم والمراقص ومحلاّت العموم ! والفصل بين السّلطة الروحيّة والزّمنية ممّا قلّدوا فيه بابويّة روما ولا حقيقة له في الإسلام ؟!
لا والله، ما كانت تخفى علينا عقائدهم ولا مقاصدهم، وإنّما كنّا نغضّ الطّرف عن شرورهم ومفاسدهم ساكتين عن ذكر مقابحهم إبقاءً للوحدة الإسلاميّة الّتي اتّجهت نحوَهم، ولمَاًّ لِشَعَثِ المسلمين حول سيرة خليفتهم، وتأييد الأمّة التركيّة خادمة الملّة التّابعة لهم، وإرغاما لأعداء المسلمين بهم، وكنّا مع هذا ننتظر لهم فئةً منهم أو أغلبيّة المعدّلين عليهم، وما كنّا نحسب أبدا أن يقدموا على إبطال الخلافة ويعلنوا بما هو كفر بواح !
لكنّه للأسف، قد قضي الأمر، ووقع ما لم يكن في الحسبان، ففعلوا فعلاتِهم الشّنعاء، وجاءوا للإسلام بالدّويهات الدّهياء، فتوالت قراراتُهم المشؤومة يحملها البرق في أقطار المعمورة من: إبطال الخلافة، ونفي الخليفة وآل عثمان، ورفض الدّولة للدّيانة، وإبطال المحاكم الشرعيّة، وغلق المدارس الدينيّة، وغير ذلك من المنكرات، فمرقوا من الدّين كما يمرق السّهم من الرميّة، وجنوا على الإسلام عدّة جنايات:
الجناية الأولى على الخلافة: كانت الخلافة نقطة اتّصال لقلوب الملايين من المسلمين، وعِرْقاً حسّاسا منهم، وعاملا قويّا لتحريك عواطفهم، ولا سيّما في هاته الأيّام الّتي أخذ فيها المسلمون يعملون على النّهوض بأنفسهم، والتّعاون بإخوانهم، والتّعاضد حسَب الإمكان أمام كلّ فاجعة تلمّ بهم.
عرفت هذا أممُ العالَم بأسرها أيّامَ انتصار الكماليّين و"معاهدة لوزان" وإن تجاهله الكماليّون اليوم ! كانت هذه الرابطة العظمى والعاطفة الكبرى من أقوى ما يُستعان به دعاةُ الوحدة الإسلاميّة السّليمة الّتي ترمي إلى نشر الإخاء والسّلام برفع راية الإسلام، وإنهاض العالم الإسلاميّ نهضةً تؤهّله لأخذ قسطه في الحياة، وأداء واجبه في خدمة الإنسانية والعمران.
هذه بعض ثمرات الخلافة حتّى على صورتها الأخيرة الّتي ابتدعها الكماليّون، ثمّ هم قد أبوا اليوم إلاّ محوَها بتاتا من الوجود، فقضوا بذلك على ركن عظيم من أركان النّهضة، وسبب قويِّ من أسباب الاتّحاد.
الجناية الثانية على الخليفة: هذا الخليفة معروف عند العارفين الشرقيّين والغربيّين بموالاته للكماليّين قبل بيعته وموافقته لهم بعدها، لذلك انتخبوه باختيارهم دون سواه، وبايعوه ثمّ نكثوا عهده ونقضوا بيعته، ولم يكتفوا بذلك حتىّ شردوه وتركوه، وهو الشّخص الّذي يحمل عنوان خليفة الإسلام ملقى على أعتاب الأوروبيّين، فيا لشماتة الأعداء والسخريّة والاستهزاء ! ساء والله ما يفعل الظالمون !
الجناية الثالثة على عائلة آل عثمان: هذه العائلة الكريمة يرتبط تاريخ مجد التّرك بتاريخها، وما كوّن التّرك وجعل لهم المنزلة السّامية في أمم الإسلام إلّا أمراؤُها، فأنكر الكماليّون اليوم كلّ ذلك، وشتموها بمخدراتها، ولم يرقبوا فيها إلاّ ولا ذمّة ! ألا إنهّم معتدون !
الجناية الرابعة على الدين الإسلامي: لم يكتف القوم برفض الدّين عن الدّولة، وتعطيل أحكامه بين النّاس جملة ! بل أخذوا في استئصاله من الأمّة التركيّة الّتي لا نشكّ في سخط أكثريّتها عليهم، وأغلقوا مدارس الدّيانة، وطردوا طلاّب العلوم الدينيّة، وصاروا يعلنون بملء أفواههم: أنّ الدّين عائق لهم عن المدنيّة ! عجبا لقوم ما قرؤوا الدّين ولا عرفوه، كيف ساغ لهم أن يحكموا عليه ؟
نعم، تشبّعهم بإلحاد أوروبا، وجهلهم بحقيقة الدّين، ووقوفهم أمام فقهاء لا يرون دين الله إلاّ من مشهور مذهبهم دون سائر مذاهب المسلمين، هذا الّذي جرّأهم على هذا المقال. وهنا يجب أن أقول: إنّ كلّ وصمة يرمى بها الإسلام إنمّا هي من إفراط مثل هذه الطائفة الملحدة وتفريط طائفة العلماء الجامدة المقلّدة، ولقد طالت مصيبة الإسلام بهاتين الطائفتين من عهد بعيد، والإسلام دين العلم والمدنية، والرقي المادّي والأدبيّ والتهذيبي النفسيّ والعقليّ بريء من كلّ عيب، شهد له بذلك عقلاء الأجانب بله أبناؤه المؤمنون.
ولو دعا الكماليّون العلماء المستقلّين أهل النّظر والاستدلال لأَرَوْهُم من الإسلام ما كانوا يجهلون، وأبانوا لهم من مبادئه السّامية وقواعده العالية الصّالحة بكلّ إنسان، الممكنة التطبيق على مقتضيات الأزمان " [" الآثار " (6/20-23)].
المطلب الّثالث: ما نشر في " الشّهاب " من أخبار تركيّة بعد سقوط الخلافة:
ممّا ورد فيها منقولا عن صحف شرقيّة ورأيته ذا بال، ويمكن أن يكون له الأثر في تغيّر لهجة ابن باديس رحمه الله تعالى جملة من المقالات أنقل أهمّ فقراتِها فيما يأتي:
أوّلا: حوار أُجْرِي مع الشّيخ موسى جار الله - أحد علماء التّركستان - بقلم تقيّ الدّين الهلالي جاء فيه:
" ثمّ سأله الأستاذ المذكور عن أحوال حكومة التّرك بعدما ذكر أنّه زار بلادهم مرارا، وهل صحيح ما نسمع عنهم ؟ فأجاب: إنّ ذلك صحيح، لكن لهم عذر فيما عملوه !
فقال له: فكيف هو مصطفى كمال من حيث الدّين ؟ فقال: إنّ مصطفى كمال رجل عظيم في كلّ شيء ما رأت عيني مثلَه في علمه وعقله ودهائه، يكفيه أنّه أنقذ أمتّه من بين أنياب أمم أوروبا.
فقال له السيد طلحة: إنّما أسألك عن دينه أهو مؤمن أم لا ؟ فقال: ما هذا السّؤال ؟ هو مؤمن مخلص من أقوى النّاس إيمانا.
فتعجب الحاضرون، وأخذني أنا المقيم المقعد ولم أقدر على السّكوت، مع أنّي كنت أودّ أن لا يفتح هذا الباب؛ لأنّه أحرج الأستاذ جار الله، فقلت: ما هي شريعة الحكومة التركيّة ؟ أهي الشّريعة الإسلامية أم غيرها ؟ فقال: شريعتهم مأخوذة من القانون الفرنسي. فقلت أنا: الّذي سمعت أنّهم استبدلوا شريعة الإسلام بقانون سويسرا، وأيّها كان فكلامكم صريح في أنّهم ليسوا على شريعة الإسلام.
فحينئذ هاجت في الأستاذ العاطفة الجنسيّة فقال: إنّ العرب يكفّرون الترك ويقولون إنّهم مرتدون، والترك يقولون إنّ العرب هم الّذين غدروا بنا وانضموا إلى الأعداء فتركناهم وما اختاروا.
ثمّ قال: إنّ العرب متحاملون على الترك، يكفّرونهم بلا حقّ، والتّكفير أمره عظيم، وهو الّذي شتّت شمل المسلمين، وأنا لا أرضاه.
وحمل على الأستاذ العلاّمة رشيد رضا متّع الله المسلمين ببقائه حملة شعواء، ونسب إليه الغلوّ في تكفير التّرك. فقلت: السيّد رشيد رضا وسائر علماء العرب لا يقولون: إنّ الأمّة التركية مرتدّة كافرة، ولم يتبدّل اعتقادهم في الأمّة التركيّة، وأنّها لا تزال متمسكة بدينها، وإنمّا يقولون: الحكومة التركيّة خرجت من الإسلام، ولم يقولوا ذلك إلاّ بعدما أعلنت خروجها عن الإسلام على رؤوس الأشهاد.
فقال: هذا خطأ من العلماء العرب، وقد رددت عليهم برسالة ألّفتها وناولتها مصطفى كمال بيدي ... فقلت(الهلالي): يا حضرة الأستاذ أريد أن أسألك سؤالا واحدا فقال: سل. فقلت: ما هو دين حكومة أنقرة ؟ فقال: ليس لها دين رسميا، فقلت: فهل هي خائفة من أن تبدي دينها ؟ فقال: كلاّ، فقلت: فما حكم من قال مختارا غير مضطّر من الأفراد -فضلا عن الدّول-: ليس لي دين، أيكون هذا القول ردّة منه أم لا ؟ ولا سيّما إذا عزّزه بالعمل -في الأحكام حتّى الزواج والميراث- بغير دين الإسلام، وهل يوجد في أيّ مذهب من مذاهب المسلمين من المذاهب الأربعة وغيرها من يحكم بإسلام من يتبرّأ من الإسلام قولا وعملا ؟
فقال -والانقباض بادٍ على وجهه-: كلّ ما تقوله صحيح، لكن لا ينبغي التّصريح بالتّكفير، بل إذا رأينا رجلا مسلما قد ارتكب أمرا عظيما ينبغي أن نلاطفه حتّى يرجع إلى الهدى وأرجو أن يكون هذا آخر البحث .." "الشّهاب" (7/225-227) أكتوبر 1931م.
ثانيا: مقال آخر لجريدة بيروتية: جاء في "الشّهاب":
" قال مراسل رصيفتنا "الأحرار" البيروتية يصف مكانة الدّين الإسلامي في تركيا واهتمام الدّولة به، ويرّد من طرف خفي على الّذين يدّعون أنّ الأتراك محقوا الدّين، وأزالوا اسمه ورسمه، قال والدّرك عليه وحده: في إمكاننا القول إنّ الدين الإسلامي لم يُصَن في تركيا مثلما هو مصان في وقتنا هذا، فالحكومة انصرفت بعد إلغاء الخلافة إلى عزل الأئمة والخطباء الجاهلين واستبدالهم بجماعة متعلّمين يعرفون حقيقة دينهم ومبادئه، كما أنّها وسعت كليّة الإلهيّات بحيث باتت كليّة دينيّة راقية، وسَنّت قانونا منعت بموجبه تعيين رجال الدّين إلاّ من خريجي هذه الكليّة الّذين يعرفون كيف يحافظون على الدّين الإسلامي وقواعده الحقيقية " ["الشهاب" (7/131) مارس 1931م].
ثالثا: مقال آخر منقول تضمن تصريحا لمثقفة تركية:
قالت:" كانت الفتاة التركيّة بل كانت الأمّة التركيّة كلّها تؤدي العبادات، وتقرأ القرآن، فإذا سألت فردا منها عمّا يقرأ وحكمة ما يقرأ، وإذا سألته معنى ما يقول حين يعبد الله لم يحظ بجواب ! فكانت المسألة كلّها تقليدا لا ينبغي لإنسان خلقه الله وشمله بنعمه أن يعبده على أساسه، فأراد الغازي مصطفى كمال ورجاله الّذين يعاونونه على إنهاض الأمّة، أن يفهم النّاس معنى ما يقولون حتّى تثبت العقيدة، ويعرف كلّ منّا أسس العبادة وروعة القرآن فترجم القرآن إلى التركيّة، وإنّي أذكر حين كنت أتعلّم الدّين في المدرسة ما كنت أعرف منه ما عرفته الآن، وكنت أنا وزميلاتي نقرأ أدعية لا نفهمها، وآيات قرآنيّة لا نعرف أوّلها من آخرها، فلمّا ترجم القرآن استطعنا أن ندرك حقيقة ديننا ودنيانا، ثمّ استطعنا أن نفهم إلى جانب ذلك ما أدخل على الدّين من بدع لأغراض سياسية أو غير سياسية شوّهت جماله وانتقصت من شأنه ..." ["الشّهاب" (9/240) أفريل 1933 م].
من هو صاحب المعيار المختّل ؟!
ومن الأمور الّتي بدّعت بها الكاتبة ابن باديس وضلّلته: زعمُها بأنّه ذو معيار مختّل في الثناء على النّاس ومدحهم، فقالت (ص54):
" إذن الشيخ ابن باديس يحكم على الشخصيّات بمعيار البطولة والشّجاعة وخوض الحروب، ولا مانع عنده من تزكية العلمانيّ مصطفى كمال أتاتورك لأنّه في نظره بطل الأناضول وغاليبولي، ولا مانع من تزكية عمر المختار لأنّه ثبت في وجه الإيطاليّين ... وهذا الأمر يجعلني في شكّ مستمر من سلفيّة الشيخ ابن باديس في حدّ ذاته، لأنّ البطولات والزعامات والمواقف المتميّزة بالشجاعة ليست دليلا على حسن المعتقد عند الكثيرين ".
الجواب عن هذا في النّقط الآتية:
أوّلا: إن ّالخلل ليس في معيار التزكيّة عند ابن باديس، ولكن في عقل الكاتبة الّتي فهمت أنّ الثناء على الرجل في ميدان الحروب أو الشجاعة لا يجوز إلاّ لسلفي العقيدة وموافقٍ لمذهبها ! ولا أدري ما هو المعيار الّذي تريد الكاتبة اعتباره في هذا الباب ؟
ولا يخفى عليها أنّ لكلّ فنّ وباب معيارَه، أم أنّ الكاتبة إذا قيل لها من أحسن النّاس شعرا ؟ تقول: من كان على عقيدة السّلف فهو الأحسن شعرا ؟ وما قول الكاتبة في جود حاتم، وشجاعة عنترة، هل نسلبها عنهما لكونهما كافرين ؟ ما تقول في عظمة شعر امرئ القيس وغيره من الجاهليين ؟ هل نسلبها عنهم أيضا لأنّهم فجّار كفّار ؟
ثانيا: ثمّ إنّي حاولت أن أفهم مرادها بالجملة الأخيرة فلم يتحرّر لي شيء مؤكّد، فلا أدري أين زكّى ابن باديس هؤلاء المذكورين في عقيدتهم ؟ ولا أدري من هو الّذي يقول: إنّ البطولات والزّعامات تدلّ على حسن المعتقد ؟ لأنّها نسبت النّفي للكثيرين، الأمر الّذي يقتضي أنّ المسألة خلافيّة !
ثالثا: في كلامها المذكور اعتراف بما رجّحته من مقصد ابن باديس وعذره، وأنّه لم يمدح سيرة مصطفى كمال، ولكن مدح أعمالا قام بها تجاه بلده وقومه.
رابعا: أنّ الكاتبة قد نقضت ما كتبت هنا في مواضع أخرى إذ قالت في (ص 49):" لأنّه من غير المعقول أن يزكّي عالم مسلم مثله شخصا مثل مصطفى كمال؟ ولو زكّاه في ناحية من النواحي الدنيويّة لوجدت له الأعذار، ولكنّ ابن باديس زكّاه في كلّ جوانب شخصيته ".
فقولها:" لو زكاّه في ناحية ... الخ " يهدم أصلها السابق في التلازم واختلال المعيار ... الخ، وهي لم تجد له العذر هناك وقد وجدته هنا.
والكلام نفسه يقال عن قولها في (ص 55):" لو أنّ الشيخ ابن باديس عند إعجابه بشخص ما يبيّن للقراء أنّ هذا الإعجاب محدود ومتوجّه إلى ناحية من نواحي الشخصيّة لكان له عذر في ذلك ".
ويزاد على ما سبق أن يقال لها من أين ثبت لها هذا الاستقراء ؟! إنّ حال هذه الكاتبة كحال ذاك الّذي يسمع غير ما يقال، ويكتب غير الّذي يسمع، ويحدّث بغير ما يكتب، فهي تفهم الفهم الخاطئ وتكتبه ثمّ تستنتج منه الأحكام، وتكتب الشيء على التوهم ثمّ تستدل به على قولها، هذا إن أحسنّا الظّن بها، ولم نقل إنّها تقصد التلبيس على قرائها.
وآخر دعوانا أنّ الحمد لله رب العالمين.