قال ابن منظور رحمه الله:" وأجاز غيره خَدعا – بالفتح - وخديعة وخُدعة، أي: أراد به المكروه. وخدعت الشّيء وأخدعته: كتمته وأخفيته، وبه سمّي المخدع، وهو البيت الصّغير الذي يكون داخل البيت الكبير " اهـ.
ومنه ما رواه أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا )).
والشّاهد أنّ الكلمة قائمة على معنى الخفاء.
ولا يختلف اثنان أنّ وصفهم بكونهم ( يخادعون الله ) إنّما هو فيما يُخيّل إليهم، وباعتبار ظنّهم، ولا يعني وقوع مخادعتهم له سبحانه وتعالى، فهم كما أخبر المولى عزّ وجلّ لا يخدعون في الحقيقة إلاّ أنفسهم، من باب قوله تعالى:{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: من الآية43].
ومن الجدير بالتّنبيه عليه: أنّ من المخادعة لله عزّ وجلّ: الأخذ بالحيل الفقهيّة، وتتبّع رخص الفقهاء، كما بيّنه ابن القيّم رحمه الله في " إغاثة اللّهفان ".
* معنى مخادعة الله للمنافقين:
و( يُخَادِعُونَ ) مفاعلة، ممّا يدلّ على وقوع هذه الصفة من الله تعالى، ويؤيّد ذلك فوله تعالى في سورة النّساء:{وَهُوَ خَادِعُهُم}، وقد اختلف أهل العلم من أهل السنّة في توجيه ذلك على ثلاثة أقوال:
- الأوّل: أنّ ذلك خرج مخرج المشاكلة، ومعنى المشاكلة: الاتّفاق في اللّفظ، والاختلاف في المعنى، كقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: من الآية40]، وقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: من الآية 194]، فمقابلة السّيّئة بالقصاص ليس سيّئة، وردّ العدوان ليس عدوانا، ولكنّها مشاكلة.
- الثّاني: أنّ ( خادع ) لا يقتضي المفاعلة دائما؛ فقد يستعمل في اللّغة للواحد، نحو: عاقبت اللصّ، وطارقت النّعل، وجالست زيدا، والعرب تقول: خادعت فلانا إذا كنت تروم خدعه.
- الثّالث: أنّهم يثبتون هذه الصّفة على الوجه اللاّئق به سبحانه، غاية ما في الأمر أنّه تعالى لا يوصف بها بإطلاق، وإنّما يوصف بها حينما تكون مدحا، وذلك في مقابلة الخداع المذموم.
قال ابن القيّم رحمه الله في " أعلام الموقّعين " (3/229) بعد أن ذكر صفة ( الكيد ) و( المكر ):
" وقد قيل إنّ تسمية ذلك مكرا وكيدا واستهزاء وخداعا من باب الاستعارة، ومجاز المقابلة، وقيل:- وهو أصوب - بل تسميته بذلك حقيقة على بابه، فإنّ المكر إيصال الشّيء إلى الغير بطريق خفيّ، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنّه نوعان:
1- قبيح: وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقّه.
2- وحسن: وهو إيصاله إلى مستحقّه عقوبةً له.
فالأوّل مذموم، والثّاني ممدوح، والربّ تعالى إنّما يفعل مِن ذلك ما يُحمد عليه عدلا منه وحكمة، وهو تعالى يأخذ الظّالم والفاجر من حيث لا يحتسب، لا كما يفعل الظّلمة بعباده ".
وبمثل هذا قال في " إغاثة اللّهفان " (2/114)، وممّن أحسن تفصيل هذا الإمام ابن جرير الطّبري في صفة الاستهزاء.
والأدلّة على جواز إطلاقها إلى جانب الآية:
- ما رواه ابن ماجه والبيهقيّ عن الزّبَيْرِ بن العوّامِ رضي الله عنه أنّه كَانَتْ عِنْدَهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ، فَقَالَتْ لَهُ - وَهِيَ حَامِلٌ -: طَيِّبْ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ ! فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَرَجَعَ وَقَدْ وَضَعَتْ، فَقَالَ: مَا لَهَا خَدَعَتْنِي خَدَعَهَا اللَّهُ ! ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: (( سَبَقَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، اخْطُبْهَا إِلَى نَفْسِهَا )) .
قال الشّيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في "المجموع الثّمين" (2/66):" أمّا الخداع فهو كالمكر، يوصف الله تعالى به حين يكون مدحا، ولا يوصف به على سبيل الإطلاق "اهـ.
وقال الحافظ الحكميّ رحمه الله في "معارج القبول" (1/76):" فلا يجوز أن يطلق على الله تعالى مخادع، ماكر، ناس، مستهزئ، ونحو ذلك ممّا يتعالى الله عنه، ولا يقال: الله يستهزئ، ويخادع، ويمكر، وينسى، على سبيل الإطلاق، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا "اهـ.
-( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ): أي إنّهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم، فهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها، ومن جهلهم وحماقتهم أنّهم لا يشعرون ولا يدرون بذلك.
والشّعور يطلق على العلم بالأشياء الخفيّة، ومنه سمّي الشّاعر، لعلمه بالمعاني الّتي لا يهتدي إليها كلّ أحد، وقدرتِه على الوزن والتقفية بسهولة، ولا يحسن ذلك كل أحد.
ومنه قولهم:" ليت شعري " في التحيّر في علم أمر خفيّ، أي: ليتني أعلم.
فوصف المنافق بأنّه لا يشعر: وصف بعدم الإحساس أصلا، وهو أبلغ في الذمّ؛ لأنّه يخفى عليه ما هو أقرب إليه، وهذا غاية البلادة.
ومن مظاهر مخادعة الله لهم استدراجهم كما قال عزّ وجلّ:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف].
ومن صفات المنافقين:
2- الشّكّ في آيات الله عزّ وجلّ: قال تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}.
-( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ): المرض بمعنى الشكّ والشّبهات.
-( فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ): أي زادهم شكّا.
-( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ): أي عذاب مؤلم، فوزن فعيل هنا بمعنى مُفعِل، كبصير بمعنى مُبصِر.
-( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ): الباء للسببية، أي لهم عذاب أليم بسبب كذبهم في دعواهم الإيمان، وقرئ:{يُكَذِّبُونَ} أي: يكذّبون الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
3- الإفساد في الأرض مع ادِّعاء الإصلاح:
قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ (12)}.
ووجوه إفساد المنافقين لعنهم الله كثيرة:
أ) الكفر بالله عزّ وجلّ، وهو غاية الفساد في الأرض.
ب) الأمر بالمعاصي، والنّهي والتّثبيط عن الطّاعة، قال تعالى:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67].
وفي زماننا هذا يلقّبون أهل المجون والخلاعة بالفنّانين تثبيتا ! وأهل الإيمان والطّاعة بالمتخلّفين تثبيطا !
ت) إيراد الشّبه على المؤمنين: فكانوا يتحيّنون كلّ فرصة لبثّ الشّبهات بين المؤمنين، فيوم حُوِّلت القبلة قالوا: لقد حنّ إلى دين قومه !
ويوم هُزِم المسلمون يوم أحُدٍ قالوا: لو كان نبيّا حقّاً لما انهزم ! وغير ذلك من الأحداث الّتي رصدتها لنا السّيرة.
وفي زماننا هذا لا تتحدّث عن الشّبه الّتي يثيرونها على قلوب ضَعَفَة المسلمين !
ث) موالاة الكفّار ومحبّتهم ونصرتهم، وهو أعظم فساد، بدليل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]. فالضّمير في ( تفعلوه ) عائد على ما يُفهم من الكلام وهو الولاء والبراء.
وإنّ منافقي زماننا هذا ( العلمانيّين ) قد يتنازلون عن كلّ شيء، ولكنّهم لن يتنازلوا عن موالاتهم للكفّار !
ولن تنال رضاهم، وتكسب مبتغاهم حتّى تتنصّل من دينك ولغتك وتاريخك، وتسلك طريق الأوروبّيين فتأخذ بقشور حضارتهم حلوها ومرّها، خيرها وشرّها !
وعليك أن تحبّ أوروبا - على وجه الخصوص - حبّا يملك شغاف قلبك، وأن تكون عواصمها أحبّ إليك من نفسك، ومالك، وأهلك، وولدك، والنّاس أجمعين .. بل حتّى تصير أوروبا هي عقلَك الّذي تفكّر به، وسمعك الّذي تسمع به، وبصرك الّذي تبصر به، ولسانك الّذي تنطق به !
ج) زرعهم الفتن بين المؤمنين: كما فعل عبد الله بن أبيّ ابن سلول في حادثة الإفك وغيرها.
ومع كلّ هذه المفاسد:
-( قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ): فجعلوا أعمال الفساد إصلاحا، فيسمّون موالاة الكافرين توحيدا للصّفوف ! وترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تأليفا للقلوب ! وهذا شبيه بحال فرعون، الّذي قال الله تعالى يصف حاله:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
-( أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ ): قلب الله عليهم دعواهم، وأكّد ذلك بأربع توكيدات: ( ألا ) الّتي للتّنبيه، و( إنّ ) وهي للتّوكيد، و( هم ) ضمير فصل للتوكيد، و( الجملة الاسميّة ) الّتي تفيد الثبوت.
-( وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ ): أي لا يدرون أنّهم هم أهل الفساد حقيقة.
وقيل: وهم لا يشعرون أنّ الله يعلم سرّهم ونجواهم.
وبقيّة صفات المنافقين فيما يأتي من الآيات، والله الموفّق لا ربّ سواه.