الرّسالة الأولى: تذكّروا حرمات الله ..
قد يتساءل كثيرون: لماذا نتحدّث عن تعظيم الحرمات في هذا الشّهر بالذّات ؟ أليس شهر ذي الحجّة وقبله ذو القعدة من الأشهر الحرم ؟
فالجواب: بلى، ولكن اعلم – أخي الكريم – أنّا خصصناه بالذّكر، لأمرين اثنين:
الأمر الأوّل: أنّه اسم إسلاميّ، وكان اسمه في الجاهليّة صفر الأوّل، وبقيّة الشّهور كانت على ما هي عليه.
فكأنّ الله عزّ وجلّ يريد منّا أن نلحظ الحرمات فيه أكثر من غيره ..
ولك أن تتأمّل الحاجّ في ذي الحجّة يسأل فزِعا، ويقصدك جزِعاً: لقد قلت زورا ولغوا ! لقد مسست الطّيب سهوا ! لقد قطعت شجرة غفلة .. لقد سقطت من رأسي شعرة !
وكذلك ترى النّاس أيّام الأضاحي .. يسألون ويخافون ألاّ تقبل منهم ضحاياهم تعظيما للحرمات:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحجّ: من الآية30]..
حتّى إذا أيّامُ ذي الحجّة انسلخت، وذُبِحت الأضاحي وسُلخَت، ربّما عاد النّاس إلى المعاصي واللّهو، والكبائر واللّغو ..
فسمّاه الله عزّ وجلّ محرّما ليتفطّنوا إلى أنّ الله في ذي الحجّة هو الله في غيره ..
الأمر الثّاني: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سمّاه " شهر الله "، وهذا لم يثبت لغيره، فأضافه إلى الله عزّ اسمه تعظيما له وتفخيما، وتنويها بشأنه وتكريما، كقولهم بيت الله، وناقة الله، وهذا دون بقيّة الشّهور.
الرّسالة الثّانية: حياة المؤمن كلّها حُرُمات ..
يقول الله تبارك وتعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم} [التّوبة: 36].
مِنْهَا أربعة حُرُمٌ: ثلاثة سرد، وواحد فرد .. ثلاثة متتالية: وهي ذو القَعدة وذو الحجّة ومحرّم، وشهر فرد منفصل عن الأولى: وهو رجب.
ولم تأت الأشهر متتاليةً كلّها لحكمة بالغة ..
قال العلماء: الحكمة من ذلك أن تعلم أنّ عام المسلمين يبدأ بشهر حرام، وهو ( محرّم )، ووسطه شهر حرام وهو ( رجب )، وآخره شهران حرام: وهما ذو القعدة وذو الحجّة .. فالعام كلّه، والحياة كلّها مبنيّة على تعظيم حرمات الله تعالى.. لذلك قال تعالى:{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم}..
{فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} بمعصية الله، فإنّ الله إذا عظّم شيئا عظّم أجر الطّاعة فيه، وعقاب المعصية فيه ..
فجعل هذه الأزمنة حرمات ..
وجعل بعض الأمكنة حرمات .. فمكّة حرمٌ على لسان إبراهيم عليه السّلام، والمدينة حرمٌ على لسان المصطفى الأمين صلّى الله عليه وسلّم.
وجعل الأوامر والنّواهي حرمات، فلا يصحّ لأحد أن يتعدّى الحلال، ولا أن يقرب الحرام:
يقول الله تعالى في الأوامر والمباحات:{فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: الآية229].
ويقول في المحرّمات:{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة:187]..
ولم يقف تعظيم الحرمات عند هذا الحدّ، بل ما زال هذا الدّين القيّم يرفع رتبتك، ويُعلي درجتك، حتّى أرشدك إلى ترك الشّبهات:
روى البخاري ومسلم أنّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ:
(( الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ )).
دين كلّه حرمات، وحدود معلومات، ودرءٌ للشّبهات ..
فأين أولئك الّذين استباحوا كلّ شيء، حتّى إذا قيل له: ذاك حرام ! قال: أنتم لا تعرفون إلاّ الحرام ؟!
وأين أولئك الّذين استحلّوا دماء المسلمين .. وأعراض المسلمين .. وأموال المسلمين، من أجل شبهات علِقت بأذهانهم، وانطلت على أفهامهم ؟
فليتأمّلوا قول المولى عزّ وجلّ:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحجّ: 32].
الرّسالة الثّالثة: تذكّروا عزّة المسلمين ..
قال الإمام الطبري رحمه الله في " تاريخه "(2/3): " ذِكْر الوقت الّذي عُمِل فيه التأريخ:
عن الشّعبي قال: كتب أبو موسى الأشعريّ إلى عمر رضي الله عنهما: إنّه تأتينا منك كتبٌ ليس لها تأريخ ؟
قال: فجمع عمرُ النّاسَ للمشورة، فقال بعضهم: أَرِّخْ لمبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ! وقال بعضهم: لمُهَاجَرِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم !
فقال عمر: لاَ، بَلْ نُؤَرِّخُ لِمُهَاجَرِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَإِنَّ مُهَاجَرَهُ فَرَّقَ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ.
وروى عن ميمون بن مهران قال: رُفِعَ إلى عمر صَكٌّ محلّه في شعبان، فقال عمر: أَيُّ شَعْبَانَ ؟ الَّذِي هُوَ آتٍ أَوْ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ ؟
ثمّ قال لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ( ضَعُوا لِلنَّاسِ شَيْئًا يَعْرِفُونَهُ ).
فقال بعضهم: اُكْتبوا على تأريخ الرّوم. فقيل: إنّهم يكتبون من عهد ذي القرنين، فهذا يطول.
وقال بعضهم: اُكتبوا على تأريخ الفرس. فقيل: إنّ الفرس كلّما قام ملك طرح من كان قبله.
فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة ؟ فوجدوه عشر سنين.
ثمّ قالوا: فأيّ الشّهور نبدأ ؟ فقالوا: رمضان. ثمّ قالوا: المحرم، فهو منصرَفُ النّاس من حجّهم، وهو شهر حرام فأجمعوا على المحرّم.
لذلك روى الإمام البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: ( مَا عَدُّوا مِنْ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَلَا مِنْ وَفَاتِهِ، مَا عَدُّوا إِلَّا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ ).
ومن قرأ هذه الآثار، واستمع إلى هذه الأخبار لا يخرج إلاّ بنتيجة واحدة:
أنّ أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أرادوا بوضع هذا التّأريخ هجرَ ما عليه أهل الكتاب والمشركون .. أرادوا تمييز شخصية المسلمين، وعدم التبعيّة للمشركين ..
لقد ساروا على خُطا نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم الّذي ما مات حتّى تغلغل في صدورهم أنّ مخالفة الكافرين قربة لربّ العالمين ..
فأين التّأريخ الإسلاميّ في حياة المسلمين ؟.. أين ذكر محرّم، وصفر، وربيع الأوّل ؟..
فعلى المسلمين أن يقفوا مع أنفسهم: هل حقّقوا هذا الأصل العظيم، وهو مخالفة من كفر بربّهم الكريم ؟!..
فإن وجدنا أنفسنا كذلك، فلنحمد الله على ذلك، وإلاّ فإنّنا ما فقهنا بعدُ معنًى لما فعله هؤلاء الأخيار من أصحاب النبيّ المختار صلّى الله عليه وسلّم ..
الرّسالة الرّابعة: احذر الجهل !..
الكلام عن هجرة سيّد الأنام صلّى الله عليه وسلّم: ما أطيبه من حديث ! وإنّا لنسعى إلى مثله السّعي الحثيث .. إذ هو حدث لا كسائر الأحداث .. إنّها بداية خروج النّاس من الأجداث ..
ولكنْ لا بدّ أن نعلم أنّ الحديث عن الهجرة النبويّة في هذا الشّهر، إنّما يُشرع لأنّهم أرّخوا بشهر الله المحرّم ؟
لا لأنّ الهجرة النبويّة كانت بشهر محرّم !
فإنّ العلماء قاطبة من المؤرّخين كالطّبري وابن كثير، وأصحاب المغازي والسّير كابن هشام، وابن إسحاق، متّفقون على أنّ الهجرة كانت بشهر ربيع الأوّل.
وتوضيح ذلك: أنّ الأنصار بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيعة العقبة الثّانية في موسم الحجّ، أي: في شهر ذي الحجّة.
وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدهم بمكّة بقيّة ذي الحجّة من تلك السنة والمحرّم وصفر، وخرج مهاجرا إلى المدينة في شهر ربيع الأوّل.[انظر " تاريخ الإمام الطّبريّ "].
ولكنّ الوهم سرى على عقول أكثر المسلمين بسبب أنّ الصّحابة لمّا أرادوا التّأريخ اختاروا السّنة التي هاجر فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يلتفتوا إلى الشّهر الذي هاجر فيه، وإنّما اختاروا محرّما لأنّه منصرف النّاس من الحجّ – كما سبق بيانه -.
وهذا يدلّ على منزلة الهجرة في صدور المؤمنين، ومرتبتها في قلوب المسلمين.
الرّسالة الخامسة: أعمال لها فضل الهجرة في سبيل الله.
روى النسائي أَنَّ أَبَا فَاطِمَةَ اللّيثي رضي الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! حَدِّثْنِي بِعَمَلٍ أَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ وَأَعْمَلُهُ. قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( عَلَيْكَ بِالْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهَا )).
ولأجل هذه الفضل، جعل الله تعالى لها خَلَفاً:
· فاحرص على الابتعاد عمّا نهى الله عنه، فإنّه هو الهجرة الحقيقيّة، فقد روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ )).
· واحرص على الإكثار من العبادة، من صلاة، وذكر، وصدقة، وصيام، فقد روى مسلم عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )).
قال الإمام النّووي رحمه الله:" المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أنّ النّاس يغفُلون عنها، ويشتغلون عنها، ولا يتفرّغ لها إلاّ أفراد " اهـ..
وأيّامنا هذه أيّام هرج وفتن، وأيّام هجرة وصبر على المحن .. ومن أجلّ العبادات التي يمكن أن تساوي مقام الهجرة التي قال عنها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((لا مثل لها))..الصّيام، فقد حثّ عليه بالوصف نفسه:
روى النّسائي وأحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقُلْتُ: مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ ؟ قَالَ: (( عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ ! فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ )).
فمن أبرز ما يعبد به الله تعالى في هذا الشّهر الكريم الصّيام، حيث روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ )).
حتّى إنّ جمهور العلماء يفضّلونه على صوم شعبان !!.. فعلينا باغتنام هذا الفضل العظيم، والثّواب العميم، من الله البرّ الكريم، وإن فاتك شيء فلا يفوتنّك صوم التّاسع والعاشر منه، وذلك لفضله، وعِظم أجره.
روى مسلم عن أبِي قتادةَ رضي الله عنه قال: سُئِلَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ؟ فَقَالَ: (( يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ )).
وسبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.