الفائدة الأولى:في معنى العبادة.
العبادة في اللّغة: هي الذلّة، يقال: طريق معبّد أي: مذلّل للسّير عليه.
وشرعا: هي الذلّ مع شدّة المحبّة، وعرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعريفا جامعا بقوله: " هي اسم جامع لما يحبّه الله تعالى من الأعمال والأقوال الظّاهرة والباطنة ".
الفائدة الثّانية: في هذه الآية تحقيق التّوحيد وتجريده لله تعالى.
ذلك لأنّ تقديم المفعول ( إيّاك ) على الفعل فيه فائدتان:
أوّلا: الحصر، فكأنّك قلت: لا نعبد إلاّ إيّاك، ولا نستعين إلاّ بك، كقوله تعالى:{ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [البقرة: من الآية40]، { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } [البقرة: من الآية41]، وهذا هو معنى ( لا إله إلاّ الله ).
ولو قال العبد: " نعبدك " لما أفاد الحصر، إذ يمكن أن يكون العبد يعبد الله وغيره.
إلاّ أنّ الحصر في ( إيّاك نعبد ) حصر عامّ حقيقيّ، والحصر في ( إيّاك نستعين ) حصر إضافيّ، بمعنى أنّه لا يستعان إلاّ بالله في الأمور الّتي تختصّ بالرّبوبيّة، وإلاّ فإنّ الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة، من ذلك ما رواه البخاري في حديث الهجرة الطّويل عن عائشة رضي الله عنها ( أَنَّ النَبِيَّ اسْتَعَانَ فِي هِجْرَتِهِ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي الدَّيْلِ هَادِياً خِرِّيتاً )، ومنه قول جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: ( جِئْتُ أَسْتَعِينُ بِكَ فِي مُكَاتَبَتِي ).
ثانيا: الاهتمام والأدب مع الله: وشأن العرب تقديم الأهمّ فالأهمّ.
الفائدة الثّالثة: تحقيق المتابعة.
فالله أمر بعبادته ولكن بشرط الاستعانة به، ومن أعظم ما تطلب الاستعانة به لتحقيق العبوديّة هو أن تكون بما شرعه على لسان رسوله ،صلّى الله عليه وسلّم، لا بما تمليه عقول الرّجال، والعادات، والأعراف، وغير ذلك. ومن المعلوم أنّ الله لا يقبل من العمل إلاّ ما كان خالصا لوجهه، موافقا لشرعه. وهذا مقتضى قول المسلم: ( وأشهد أنّ محمّدا رسول الله ).
الفائدة الرّابعة: تحقيق التوكّل على الله.
فالعبد مأمور بعبادة الله على الوجه المشروع، ولا بدّ أن يتبرّأ من حوله وقوّته، فلا يكن حاله حال من قال:{ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } [القصص: من الآية78]، بل عليه أن يفتقر إلى الله وحده لا شريك له، ويسأله الإعانة في الأمور كلّها لا سيّما الوصولُ إليه والإقبال عليه. لذلك سنّ لنا نبيّ الرّحمة أن نقول إذا سمعنا المؤذّن يقول: " حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح " أن نقول: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ "، أي: أنت من وفّقني يا ربّ بحولك وقوّتك للاستجابة لهذا النّداء.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى:{ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: من الآية123]، وقوله تعالى:{ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [المزمل:9].
قال ابن تيمية رحمه الله وابن القيّم - كما في " التّفسير القيّم " (ص48)- عن هذه الآية: إنّ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } تدفع الرّياء، وأنّ { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } تدفع الكبرياء.
وقال في " مدارج السّالكين ": " ثمّ إنّ القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التّلف ولا بدّ، وهما الرّياء والكبر، فدواء الرّياء بـ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )، ودواء الكبر بـ( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )، وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه يقول: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) تدفع الرّياء، و( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) تدفع الكبرياء ".
ويظهر لك جليّا قوّة تعلّق العبد بربّه بالتّكرار، فلم يعلّمنا أن نقول:" إيّاك نعبد ونستعين "، بل أن نعيد كلمة ( إِيَّاكَ ).
الفائدة الخامسة: في الآية التفات.
صورة بلاغيّة عظيمة تكسو الكلام جمالا وكمالا، وهي الالتفات، والالتفات هو " الانتقال من أسلوب إلى آخر " فينتقل المتكلّم من الغيبة إلى الحضور أو العكس. وذلك في كلام الله كثير لنكت بديعة علمناها أو جهلناها.
فقد كان الإخبار عن الله بأسلوب الغيبة: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}، ثمّ يقول العبد:{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وفائدة ذلك هو ما ذكره ابن كثير رحمه الله قائلا:
" إنّ العبد لمّا أثنى على ربّه تبارك وتعالى .. فكأنّه اقترب وحضر بين يدي الله تبارك وتعالى، فلهذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". فإذا علمنا هذه النّكتة، علمنا:
الفائدة السّادسة: تحقيق الأدب في الدّعاء.
فمن أعظم أداب الدّعاء وأسباب الإجابة أن تقدّم بين يدي الدّعاء ثناءً على الله تعالى بأسمائه وصفاته.
قال النّووي رحمه الله في "الأذكار" (ص176):
" أجمع العلماء على استحباب ابتداء الدّعاء بالحمد لله تعالى، والثّناء عليه، ثمّ الصّلاة على النّبيّ ، وكذلك يختم الدّعاء بهما ".
وهذا أدب رفيع يُحمد من العبد إذا فعله مع المخلوق، فكيف مع الخالق سبحانه. لذلك اشتملت أمّ الكتاب على هذا الأدب فقسمها الله تعالى بينه وبين عبده، وبدأت بالحمد لله، والثّناء عليه، وتمجيده، حتّى إذا فعل العبد ذلك دعا ربّه قائلا: (وإيّاك نستعين اهدنا ..)، فقال عزّ وجلّ: ( ولعبدي ما سأل )، ومنه تقديم الثّناء على الدّعاء في السّجود، وهذا لا يمكن أن يحصيَه مُحْصٍ في أدعية الرّسول صلّى الله عليه وسلّم.
وجاء في سنن النّسائي وغيره عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَدْعُو بِهِنَّ فِي صَلَاتِي ؟ قَالَ: (( سَبِّحِي اللَّهَ عَشْرًا، وَاحْمَدِيهِ عَشْرًا، وَكَبِّرِيهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلِيهِ حَاجَتَكِ، يَقُلْ: نَعَمْ نَعَمْ )) [قال الألباني رحمه الله: حسن الإسناد].
ومنه ما رواه أحمد وأبو داود والتّرمذي - واللّفظ له - عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: بَيْنمَا رَسُولُ اللَّهِ قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي ! إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدْ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ، ثُمَّ ادْعُهُ )).
الفائدة السّابعة: قدّم الله العبادة على الاستعانة من باب تقديم الغايات على الوسائل.
فما خُلِق العبد إلاّ لعبادة الله، كما قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذّاريات:56]، فقدّم العبادة على الاستعانة مع أنّ الاستعانة نفسها عبادة، فكيف بمن يقدّم الوسيلة الّتي هي دون ذلك ؟!
ولذلك حريّ بالعبد أن لا يُهمل الغاية بسبب الوسيلة، ومن أعظم الأحاديث في ذلك ما رواه أحمد عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَيُحَدِّثُنَا، فَقَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ: (( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: " إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ " )).
الفائدة الثّامنة: في الآية تحقيق الافتخار بالعبوديّة.
فلو سألك سائل فقال: ما معنى ( النّون ) في قولك القارئ والمصلّي: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ؟
فإن كانت للجمع فلماذا يقولها المنفرد ؟ وإن كانت للتّعظيم فالمقام مقام ذلّ لا تناسبه نون العظمة ؟
وللعلماء أجوبة ثلاثة عن ذلك:
• الأوّل: المراد جنس العباد جميعهم، فالقارئ يخبر عن نفسه وغيره من العباد، لا سيّما إذا كان في جماعة.
• الثّاني: أنّ النّون فعلا للتّعظيم، لأنّ مقام العبوديّة مقام تشريف وتعظيم، فليس لكلّ أحد أن يكون عبدا طائعا لله إلاّ من وفّقه الله إلى عبادته وطاعته، لذلك وصف الله تعالى نبيّه بالعبوديّة في أرقى المقامات، وأعظم المنازل، ولو كان هناك وصف أعظم من العبوديّة لوصفه به، قال ابن القيّم رحمه الله في " مدارج السّالكين" (1/102):
" ووصف أكرمَ خلقه عليه، وأعلاهم عنده منزلة، بالعبوديّة في أشرف مقاماته، فقال تعالى:{ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [البقرة: من الآية23]، وقال تبارك وتعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } [الفرقان: الآية1]، وقال:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } [الكهف: من الآية1]، فذكره بالعبوديّة في مقام إنزال الكتاب عليه، وفي مقام التّحدي بأن يأتوا بمثله.
وقال:{ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [الجـن:19]، فذكره بالعبوديّة في مقام الدّعوة إليه، وقال:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء: من الآية1] فذكره بالعبودية في مقام الإسراء ". اهـ.
لذلك كان كثير من السّلف لا يرضى أن يجرّد من التّعبيد لله إذا ناداه أحد، وما أحسن قول من قال:
( ومـمّا زادنـي شـرفا وتيـها وكـدت بأخمُصـيّ أطـأ الثّـريّا
دخولي تحت قولك:يَا عِبَادِي وأن صيّرت أحـمـد لـي نبـيّا )
• الثالث : قالوا: إنّ قول العبد ( إيّاك نعبد ) ألطف في الأدب من قوله ( أعبد )، لأنّ في الثّاني تعظيما لنفسه، إذ جعل نفسه وحده أهلا لعبادة الله وهو سبحانه لو أمدّنا عمرا يسع أعمار الخلق كلّهم لما وفّيناه حقّه، والملائكة الّذين { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } [الأنبياء:20] يقولون إذا رأوا الميزان يملأ بين السّماء والأرض: (سبحانك ! ما عبدناك حقّ عبادتك ).
الفائدة التّاسعة: إذا سئلت عن أعظم العبادات وأفضلها ؟
فاعلم أنّه قد كثرت الأقوال في ذلك، وأحسنها ما ذكره ابن القيّم رحمه الله أنّ أفضل العبادات ما كان موافقا للحال والزّمان.. ففي وقت تكون الصّلاة أفضل العبادات، وعند حضور مجلس العلم يكون العلم أفضل من النّوافل، وعند دخول وقت الرّواتب يكون أداؤها أفضل من عمل آخر، وعند احتياج الأخ إليك تكون إعانته أفضل القربات. والأصل في المسلم أن لا يفرغ من عبادة الله، قال تعالى:{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) }، ولو قدّر أن يمرّ على المؤمن فراغ، فأفضل العبادات على الإطلاق هو ذكر الله: بتسبيحه، وحمده، وتهليله، وتكبيره، وتلاوة كتابه، وحضور مجالس العلم، لما رواه التّرمذي وغيره عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم :
(( أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟)) قَالُوا: بَلَى ! قَالَ: (( ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى )).
الفائدة العاشرة: ( إيّاك ) تقرأ بتشديد الياء.
وشذّ من قرأ بتخفيفها - وهي قراءة عمرو بن فايد رحمه الله -، قال ابن كثير: " وهي مردودة "، لأنّ ( إيَا ) ضوء الشّمس، لذلك ذكرها الشّيخ بكر بن عبد الله في " معجم المناهي اللّفظية ".
ومنهم من يقرأها ( إِيَكَ ) فيأتي بما لم يُقرأ به لا في الصّحيح ولا الشاذّ.
والله تعالى أعلم وأعزّ وأكرم.