ولم تعجب يزيدَ سياسةُ النّعمان، فعزله، وعيّن بدله عبيدَ الله بن زياد، وأمره بالقبض على رُوّاد الفتنة أو قتلهم. فدخل ابنُ زياد الكوفةَ وخطبهم ووعد من أطاع منهم خيراً، وتوعّد من خالف وحاول الفتنة منهم شراً. [" تاريخ الطّبري " (6/ 280)].
كيف تمّ القضاء على مسلم بن عقيل وأنصاره ؟
واتّبع عبيدُ الله بنُ زياد للقضاء على مسلم بن عقيل وأنصاره الخطوات التّالية:
1- اختراق تنظيم مسلم بن عقيل: فبثّ جواسيسه، فيكونون نهارهم عند مسلم بن عقيل، وفي اللّيل بين يدي عبيد الله بن زياد.
2- سجن كلّ من يأوي مسلمَ بن عقيل وأنصاره.
3- استخدام ابن زياد للأشراف للقضاء على تمرد الكوفة: فكان سادةُ وزعماء الكوفة يعظون الناس ويذكّرونهم بالسّلامة والأمن، وأنهم إن لم يكفّوا عن معاونة الخارجين سيُحرمون من العطاء، ويساقون إلى الثغور وينالهم العقاب الشّديد ["تاريخ الطبري (6/ 293)"].
وعمل كلامهم بين صفوف النّاس عملَه، فأخذ العدد يتضاءل سريعاً، حتّى لم يبقَ مع مسلم بنِ عقيل إلاّ القليل.
بل نشبت الفتن بين صفوف أتباع مسلم بن عقيل، حتّى بقِي وحيداً [" تاريخ الطّبري " (6/ 293)]، فكانت الخطوة الأخيرة:
4- القبض على مسلم بن عقيل وقتله: وكان من وصاياه قبل قتله رسالة إلى الحُسين رضي الله عنه يُعلِمُه فيها أنّه كان قد كتب إليه أنّ النّاس معه، فهم لم يعُودوا كذلك. وكان آخر ما تأسّف له خذلان أهل الكوفة له.
ثمّ صُلِب هو من ومن ساعده وآواه في سوق أمام النّاس [" البداية والنّهاية " (11/ 490)].
ويُلحَظ: أنّه كان في وسع ابن زياد أن يرسل مسلم بن عقيل ومن معه إلى الخليفة بدمشق، فربّما سجنهم أو عفا عنهم، فيكون ذلك خيرا من إراقة الدّماء، وبثّ الإحن والعداوات بين المسلمين.
فتلك التصرّفات لا تخدم الدّولةَ، بل إنّها تُدلي إلى النّاس حجّة على بطش الدّولة وتعسّفها.
عبرة: كما أنّ في هذه الأحداث درساً لئلاّ يغترّ أحد بكثرة الأتباع والأنصار، فالعواطف وحدها لا تكفي في التّغيير، بل لا بدّ من القيادة الراشدة، والتنظيم المحكم، والتّخطيط البعيد، وتوثيق الأفراد، والإعداد المعنويّ والمادي معاً جنباً إلى جنب.
سادساً: خروج الحسين ومواقف الأمراء منه:
خرج الحسين رضي الله عنه من مكّة يوم التّروية الثّامن من ذي الحجّة سنة ستّين، وحاول والي مكّة أن يُثْنِيَه عن عزمه، ولكنه رفض، واتّجه إلى العراق في أهل بيته وستّين شيخاً من أهل الكوفة.
وكتب مروان بن الحكم إلى ابن زياد:" أمّا بعد، فإنّ الحسينَ بنَ عليّ قد توجّه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتالله ما أحدٌ يسلّمه الله أحبّ إلينا من الحسين، وإيّاك أن تُهيّج على نفسك ما لا يسده شيء ولا ينساه العامّة، ولا يدع ذكره، والسّلام عليك " ["الطّبقات" (5/ 167)، و"تهذيب الكمال" (6/ 422)، و"مواقف المعارضة" ص (263)].
وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص ينهاه عن التعرض للحسين ويأمره بأن يكون حذراً في تعامله مع الحسين.
وفي الطريق إلى الكوفة قابل الحسينُ الفرزدقَ الشّاعرَ المشهور، فقال له الفرزدق:" يخذلونك ! فلا تذهبْ فإنّك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك. ["البداية والنّهاية" (11/ 510)].
وعندما علِم يزيد بن معاوية بخروج الحسين من مكة واتجاهه إلى الكوفة، كتب إلى ابن زياد يحذّره قائلا:" بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة، وقد ابتُلِي به زمانك من بين الأزمان، وبلدُك من بين البلاد، وابتُلِيت به من بين العُمّال، وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تعتبد العبيد " ["مجمع الزّوائد" (9/ 139)، و"المعجم الكبير" (3/ 115)].
سابعاً: ابن زياد يحُول بين أهل الكوفة والحسين.
فقام بجمع المقاتلة وفرق عليهم العطاء حتى يضمن ولاءهم.
ثمّ جعل شرطته على كلّ طريق يؤدّي إلى الكوفة، فلا يُتركُ أحدٌ يلج ولا يخرج ["أنساب الأشراف" (3/ 573)، و"مواقف المعارضة" ص (265)].
وجعل يقتُل كلّ من قامت البيّنة على أنّه مساندٌ منتظر لقدوم الحسين رضي الله عنه.
ومضى الحسين بن علي في طريقه إلى الكوفة وهو لا يعلم بتلك التغيّرات الّتي حدثت في الكوفة، بل لا يزال يحدّث نفسه بكثرة المبايعِين له.
وبعد ذلك جاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل وكثير من أعوانه، وبلغه تخاذل أهل الكوفة عن نصرته ["تاريخ الطّبري" (6/ 322)].
وكان لهذا الخبر وقعُه الشّديد على الحسين رضي الله عنه، فهؤلاء أقرب النّاس إليه قد قتلوا، والشيعة في الكوفة تخاذلوا في نصرته، فأخبر من معه بذلك، وقال لهم:" من أحبّ أن ينصرف فلينصرف "، فتفرّق النّاس عنه يميناً وشمالاً ["تاريخ الطبري" (6/ 323)].
وقال له بعض من ثبتوا معه: ننشدك الله إلاّ رجعت من مكانك، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصرٌ ولا شيعةٌ، بل نتخوّف أن يكونوا عليك ! فوثب بنو عقيل إخوة مسلم، وقالوا: والله لا نبرح حتّى نُدرِكَ ثأرَنا، أو نذوق كما ذاق مسلم ["تاريخ الطّبري" (6/ 322)].
فما الّذي كان بعد ذلك ؟
هذا ما سنراه لاحقا إن شاء الله تعالى.