أوّلا: عصر الفاطميّين (296-567)
لقد كان أوّل ما عرفت الجزائر بدعةَ التصوّف في عصر بنِي عُبَيد، الّذين ادَّعَوْا النّسبَ الفاطميّ، حيثُ كانوا يفسّرون الإسلام ونصوصَه وتعاليمَه تفسيراً باطنيّا يلتقي مع بدعة التصوّف المأخوذة من الفكر اليونانِيّ لفظا ومعنى؛ فإنّ كلمة "الصّوفية" مشتقّة من كلمة (سوفيا) اليونانيّة الّتي تعني الحكمة - كما قاله البيروني -، ويؤكّده مضمونُ التّصوّف المختلط بالفلسفة، والمتفِّق معها في غايتها.
قال الجرجاني:" الفلسفة: التشبّه بالإله بحسب الطّاقة البشريّة، لتحصيل السّعادة الأبديّة "، وقال الكاشاني:" التصوّف: هو التخلّق بالأخلاق الإلهيّة ". ولذلك قال ابن عربي:" ومِن شُروطِ المنعوتِ بالتصوّف: أن يكون حكيما ذا حكمة، وإن لم يكن فلا حظّ له من هذا اللّقب ".
وقد بيّن ابن خلدون في مقدّمته أنّ الصوفية كانوا مخالطين للإسماعلية الباطنيّة " فأُشرِب كلّ واحدٍ من الفريقين مذهبَ الآخرِ، واختلطَ كلامهم وتشابهت عقائدهم ".
وفي تأكيد هذه الحقيقة التّاريخية يقول الشّيخ أبو يعلى الزّواوي في كتابه " الإسلام الصّحيح " (156- طبعة دار الحبر):
" إنّ الدّولة الفاطميّة الباطنيّة قد سَمّمت الأمّةَ الإسلاميّة بمعتقداتها، ومخترعاتها، وكفريّاتها، وادّعاءِ علمِ الغيب والعلمِ الباطنيّ ".
ويؤكّدها أيضا الشّيخ مبارك الميلي في "تاريخ الجزائر" (ص 720) لكن مع بيان موقف العلماء المسلمين من فكرهم وعقائدهم، فقال رحمه الله:" وقد عرفتْ الجزائرُ التصوّفَ زمنَ بني عُبيد، لكنّ العلماءَ أنكروا عليهم، وكفّروهم، حتّى قال محمّد بن عمّار الكلاعي الميورقي يوصي ابنَه في قصيدة:
وطاعةَ من إليه الأمرُ فالزمْ *** وإن جاروا وكانوا مسلمينا
فإن كفروا ككفر بني عبيد *** فلا تسكن ديارَ الكافرينا "
ثانيا: عصر المرابطين (480-541)
واستمرّ رفضُ العلماء المالكيّة وغيرهم للعقائدِ الصوفيّة بعد زوال دولة بني عبيد عن المغرب العربيّ، وظهر هذا الرّفضُ جليّا بما اشتهر من فتاوى المالكيّة بإحراق كتب الغزالِيّ لمّا دخلت المغربَ، وعلى رأسها "إحياء علوم الدّين"، وأمر ابن تاشفين بذلك.
والعلماء إنّما أنكروا هذه الكتبَ لا لما تضمّنتْه من مواعظَ ورقائقَ، ولكنْ لمِا تضمّنته من تعاليم التصوّف الفلسفيّ المضادّ لشريعة الإسلام، ولذلك قيل: إنّ الغزالي أمرضه "الشّفاء" لابن سينا.
على أنّ رفضَ العلماء لإحياء الغزالي لم يكُن قاصراً على المالكيّة المغاربة، بل شمل علماءَ المشرق من شافعيّة وغيرهم؛ فقد أنكروا على الغزالي ما في كتبه من فلسفة وتصوّف غالٍ، وقد أشار إلى ذلك الغزالي نفسُه في مقدّمة كتابه "منهاج العابدين" (ص:56)، لكنّ الغزاليّ (الّذي دخل في بطن الفلاسفة، ثمّ أراد أن يخرج منهم فما قدر) - كما قال ابن العربي - أرجعَ سببَ قدح القادحين إلى أنّ الإحياء احتوى دقائقَ اعتاصت على أفهامهم.
ثالثا: عصر الموحِّدين (515-668)
" وبقي الأمرُ على ذلك، حتّى جاءت دولةُ الموحِّدين الّتي نشرت كتب الغزاليّ " كما قال الشّيخُ مباركٌ الميليّ رحمه الله، ونشرُ الموحِّدين لكتبِ الغزالِيّ أمرٌ مشهورُ في التّاريخ، على أنّه لم يكن مقتصرا على كتب السّلوك، بل شمل نشرَ كتبِ أصولِ الفقه، وأصول الدّين؛ لأنّ ابنَ تومرت كان قد تتلمذ على الغزاليّ وتأثّر به.
ويؤكّد الشّيخ الميليّ رحمه الله على دورِ الدّولة الموحّدية في نشر بدعةِ التّصوف فيقول:" فلم يكن يومئذٍ بالمغرب شأنٌ للصّوفية إلى أن جاءت الدّولة المؤمنية، ونشرت المعارفَ ونصرت الفلسفة ، فظهر من الصّوفية رجالٌ ذوو علم طار صِيتُهم في الآفاق ".
ويقول الشّيخ أبو يعلى الزّواوي في "الإسلام الصّحيح" (ص:161):" فإذا تأمّلْتَ أيّها الواقف في استمرار الدّولتين المخزيتين العُبيديّة والموحِّدية قروناً كثيرةً - كما تقدّم - زال عنك التعجّب، وظهر لك سببُ الضّلال، وسببُ شغف النّاس بالأولياء الأموات، والأقطاب، والأغواث، والأبدال، والمجاذيب، وسائر المتصرّفين في الغيب على اعتقادهم الغيب والباطن، وأنّ جميع ما يقع في الكون بتصرّفهم وقضائهم ".
أعلام التصوّف في المرحلة الموحّدية.
ذكر الشيخ الميلي في كلمته الّتي نقلناها أنّه ظهر من الصّوفية في عهد الموحِّدين رجالٌ ذوو علم طار صيتهم في الآفاق، ولذلك عُرِف التّصوّف في أوّل مراحله بأنّه تصوّف علميّ، لا يصل إلى فهمه إلاّ من له باع في الفلسفة، فبقي تصوّفاً علميّا، أو تصوّفا خاصا بالنّخبة كما يعبَّر عنه في الاصطلاح المعاصر، ومن هؤلاء المشاهير الّذين عرفتهم الجزائر:
1- أبو مدين شعيب الأندلسيّ: دفين تلمسان المتوفَّى سنة (591 هـ/1194م):
قرأ على ابن حرزهم وغيره، وأخذ التصوّفَ عن أبي يعزى يلنور بن ميمون (ت:572) (وهو من المغرب الأقصى)، ويقال: إنّه لقِيَ في عرفة الشّيخَ عبدَ القادر الجيلانيّ، وكان قد استوطن بجاية ودرس فيها رسالة القشيريّ وغيرها، ولما كثُر أتباعُه وذاع صيتُه، استقدمه يعقوبُ بن يوسف المنصور الموحّدي(ت:595) إلى مراكش، فلمّا بلغ تلمسان توفِّي بها.
2- عبد السّلام بن مشيش (ت 625 هـ/1228 م):
وهو عبد السّلام بن سليمان المعروف بمشيش، أخذ طريقَ التصوّف عن أبي مدين شعيب، وعبد الرّحمن بن حسن العطّار الشّهير بالزيّات، ومن آثارها: دعاء المشيشية، مات مقتولا في شمال المغرب الأقصى.
3- أبو الحسن الشّاذلي (ت:655 هـ/1258 م):
وهو عليّ بن عبد الله المغربيّ الأصل، نُسِب إلى شاذلة - وهي قرية بتونس - لإقامته بها. أخذ التصوّف عن ابن مشيش في المغرب، وأقام مدّةً في تونس، ثمّ انتقل إلى الإسكندريّة بمصر حيث نشر مذهبَه.
وصار له أتباعٌ عُرِفوا بالدّراويش وبالفقراء - والدّرويش: كلمة فارسيّة معناها القانع والفقير -، وله أحزابٌ تتلى منها: حزب البحر، وتوُفِّي بأرض الحجاز، وإليه تنسب الطريقة الشّاذلية، وسيأتي الحديثُ عنها وعن طوائفها الكثيرة في الجزائر.
4- محيي الدّين بنُ عربيّ الأندلسي (ت:633 هـ/1240 م):
وُلِد في مرسية بالأندلس، ودرس بإشبيلية الفلسفةَ، وقد كان ظاهريَّ المذهب في العبادات، باطنِيّ النّظر في الاعتقادات، ويستعمل في كلامِه عباراتٍ غامضةً، وأحياناً يستعمل عباراتٍ صريحةً في الكفر، والقولَ بالاتّحاد، كقوله:" التّثليث أساس الوجود، ومع أنّ الله في اعتقادِنا فردٌ، فأوّل عدد فرديّ ثلاثة لا واحد ".
زعم أن الولاية أعلى رتبةً من النبوّة، وأنّه خاتم الأولياء. وأتباعُه يلقّبونه بالشيخ الأكبر. رحل إلى المشرق، وأقام في بجاية مدّة، واستقرّ في دمشق، وتوفِّي بها.
5- عبد الحقّ بن سبعين (ت:669 هـ/ 1269 م):
فيلسوف أندلسيّ، أخذ التصوّف عن أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن محمّد بن الدهّاق، وانتقل إلى سبتة، ثم طُرد منها، فسكن بجايةَ مدّةً، وأقرأ بها، ثمّ لَحِق بالمشرق، وبقي بمكّة إلى وفاته. ومن كلامه:" شعيبُ عبدُ عملٍ، ونحن عبيدُ حضرة ". وهو من القائلين بوحدة الوجود.
من أعلام التصوّف العمليّ (الزّهد) بعد الموحّدين.
وبعد عصر الموحِّدين، لا شكّ أنّ هذا الفكرَ الغالِيَ والمنحرفَ قد وجد من يتبنّاه، كما وجد إلى جانب ذلك من عُرِف بالزّهد، أو ما يسمّى عند البعض بالتصوّف السنّي، أو التصوّف العملي لا الفلسفي.
وتبنّى هذا الاتّجاهَ جمهرةٌ من الفقهاء العلماء البعِيدِين كُلَّ البُعْد عن الفلسفة وزنادقتها، كما نجد ذلك في كتب تراجم المغاربة عموما؛ فإنّهم كانوا مائلين إلى الزّهد في الدّنيا مع صلاحٍ ظاهرٍ وورع تامّ، دون إيغالٍ في التعبّد، والترهّب، أو وولوج في باب الشّركيات.
ومن أعلام هذا الاتّجاه: الشّيخ الفقيه الزّاهد أبو زيد عبد الرّحمن بن محمّد الثّعالبي (ت 875 هـ/1471 م):
وُلد في مدينة يسر، وطلب العلمَ في بلده، ثمّ في بجاية، فلقي بها أكابِرَ أهل العلم في زمانه، ولم يقنع فرحل إلى تونس، ثمّ مصر، ثمّ تركيا، ثمّ الحجاز، وقفل راجعا إلى وطنه بعد رحلة طويلة في طلب العلم.
واستقر بالجزائر العاصمة، حيث عكف على نشر العلم تدريسا وتأليفا، فتخرّج على يديه كثير من العلماء، من أشهرهم: محمّد بن يوسف السّنوسي، ومحمّد المغيلي التلمساني، ومحمّد بن مرزوق الكفيف، وأحمد الزّروق، وأحمد بن عبد الله الزّواوي.
وإلى عصر هذا الشّيخ الّذي اشتهر بالزّهد، وكثرت مؤلّفاته في الوعظ والرّقائق، لم تنتشر الطّرق الصوفية، وإنّما انتشرت هذه الطّرق في عصر تلاميذه، أي: في القرن العاشر الهجريّ.
المطلب الثاني: ظهور الطرق الصوفية أو التصوف الشعبي.
ابتداءً من القرن العاشر الهجريّ، بدأ يظهر ما يُسمّى بالطّرق الصوفيّة، الّذي قام على مبدأ تحزيب الأتباع، وإعطاءِهم العهودَ والمواثيقَ للشّيوخ، حتى يلتزموا بطاعة الله وطاعة الشّيخ.
وقد رتّب من أسّس هذه الأحزاب ترتيباً يتدرّج فيه المسلم الّذي يريد الوصولَ إلى درجة الإحسان في العبادة وإلى ما هو أعلى منها ! وهو ترتيبٌ ما أنزل الله به من سلطان؛ فمن حضر وهو يريد الدّخولَ إلى طريقة الشّيخ يسمّى تلميذا، فإذا دخل وكان في أوّل الطّريق يسمّى مريدا، فإذا طال به العهد واختاره الله لحبّه صار فقيرا، فإن تقدّم به الحال إلى ما يسمّى بالمكاشفات فهو السّالك، وإن وصل إلى مرحلة الفناء وفقدان الوعي والانجذاب إلى الله تعالى فهو المجذوب.
وجعل كلّ شيخ يزعم أنّ له طريقا موصِلاً إلى الله تعالى لأتباعه أورادا وأذكارا يلتزمونها، ويتميّزون بها عن أهل الطّريقة الأخرى، وربّما جعل بعضَهم لأتباعه هيئةً معيّنةً في اللّباس، والعِمامة، والسُّبحة، ونحو ذلك.
وتعميمُ هذا الفكر على عامّة النّاس شجّعَ كثيرا من الدّجاجلة ومُدّعِي الزّهد والعبادة على الانتساب للتصوّف، فأصبحوا يؤسّسون لأنفسهم أو لشيوخٍ معروفين بالزهد قد ماتوا طرقا صوفيّة يكتسبون بها الأتباع والأرزاق؛ لأنّ أمر الطّرق لم يعُدْ قاصراً على اتّباعِ منهجٍ معيّنٍ في الذّكر مع معاهدة الشّيخ على لزوم الاستقامة؛ بل ترقّى إلى تقديم القرابين، وخدمة الشّيخ وأولاده مقابلَ إعطائِه الضّمانَ للمريدِ (أو ما يشبه صكوكَ الغفران).
وتعدّى الأمر إلى الدّعاية إلى عبادة القبور من أجل كسب الأرزاق وجمع الزّكوات. وكثيرٌ من هؤلاء الدّجاجلة قد عادوا في تصوّفهم إلى التصوّف الفلسفي الأصيل المبنيّ على إنكار الشّريعة، ودعوى الحلول والاتّحاد.
وفي وصف هذه الحال يقول الشّيخ عبد الرّحمن الأخضري (ت:983 هـ/1575 م):
آهٍ على طريقة الكمـال *** أفسدها طوائف الضّلال
آهٍ على طريق أهـل الله *** آهٍ على طريق حزب الله
طريقة أفسدها أهل البدع *** فتُرِكت مهجورة، لا تُتّبع
طريقة أفسـدها الفجّارُ *** فكثُروا، وانتشروا، وثاروا
وظهـرت في جملة البلاد *** طائفـة البلـع والازدراد
ووافقه على هذا الوصف الأخير شيخٌ مكّي، اسمه شهاب الدّين المرشدي، فقال فيما نقل عنه الميليّ:
صوفيّة العصر والأوان *** صوفيّة العصر والأواني
وسئل أحدُ شيوخ القادرية في طرابلس الشّام عن كثرة الطّرق وتعدّد شيوخها ؟ فقال:" تغييرُ شكل، لأجل الأكل ".
[يتبع]