-( يَا أيُّهَا النَّاسُ ): الخطاب لعموم النّاس كافرِهم ومؤمنِهم ومنافقِهم- كما سبق بيانه -:
فهو للمؤمنين أمر باستدامة العبادة والاستمرار عليها، كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ..} [النساء: من الآية 136].
وهو للكافرين والمنافقين أمر بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له ابتداءً.
وابتداء هذه الآية بقوله ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) فيه ردّ لما ذهب إليه كثير ممّن صنّف في علوم القرآن في التّمييز بين المكّي والمدنيّ بأنّ ما قيل فيه: ( يا أيّها النّاس ) فهو مكّي، وما قيل فيه: ( يا أيّها الّذين آمنوا ) فهو مدنيّ، اللهمّ إلاّ أن يريدوا بذلك أنّه الغالب.
-( الَّذِي خَلَقَكُمْ ): هذه صفة له سبحانه، وإنّما نصّ على صفة الخلق، لأنّ المشركين كانوا يقرّون ويعترفون بأنّ الله هو خالقهم ورازقهم ومدبّر أمورهم، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61]، وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:63]، وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25]، وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزّمر: من الآية 38]، وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزّخرف:87]، وغيرها من الآيات.
فإذا كانوا مقرّين بأنّ الله خالقهم ورازقهم ومدبّر أمورهم، فينبغي لهم أن يوحّدوه في العبادة، لأنّه لم يشاركه أحدٌ في الخلق، فلا ينبغي أن يُشرك معه أحدٌ في العبادة.
ولكنّهم كانوا مشركين، وقد صوّر لنا الله حالهم بقوله:{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: من الآية 3]، وقال:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، فكان ذلك هو سبب استباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم وخلودهم في نار جهنّم وبئس المصير.
ولقد ضرب نبيّ الله عيسى عليه السّلام لذلك مثلا عظيما؛ فقد روى التّرمذي عن الحارثِ الأشعريِّ رضي الله عنه أنّ النّبِي صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا ... فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَامْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، وَتَعَدَّوْا عَلَى الشُّرَفِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ:
أَوَّلُهُنَّ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي وَهَذَا عَمَلِي، فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ، فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ ؟! ..)) الحديث.
فالله تعالى في هذه الآية يذكّر العباد بأنّه هو خالقهم فينبغي ألاّ يشرِكوا به شيئا، فيكون التّذكير بالخلق:
إقامة للحجّة على الجاحد.
أو تذكير بالنّعمة للعابد.
-( والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ): ذكر الله خلقَ الّذين من قبلهم لأسباب:
الأوّل: لدفع "الدّور والتّسلسل"، وهو قول الدّهريّين الّذين يزعمون أنّهم إنّما خلقوا من غير خالق، فقالوا: إنّما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلاّ الدّهر !
الثّاني: جعله موعظة لهم؛ فذكّرهم بمن قبلهم وأنّ مصيرهم إليه كمصير من سبقهم، لذلك كان من أجمل ما أُثِر من كلام الحنفاء الأوّلين خطبة قسّ بن ساعدة الإيادي، حيث قام على النّاس قائلا:
" أيّها النّاس، اسمعوا وعوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، بحار تزخر، ونجوم تزهر، وضوء وظلام، وبرّ وآثام، ومطعم ومشرب، وملبس ومركب. مالي أرى النّاس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا ؟ أم تُرِكوا فناموا ؟ وإلهِ قسّ بن ساعدة ما على وجه الأرض دينٌ أفضلُ من دين قد أظلّكم زمانه، وأدرككم أوانه، فطوبى لمن أدركه فاتّبعه، وويل لمن خالفه. ثمّ أنشأ يقول:
في الذّاهبين الأوّليـ *** ـن من القرون لنا بصائر
لمّا رأيـت مـوارداً *** للموت ليس لها مصـادر
ورأيت قومي نحوها *** يمضي الأصاغر والأكابـر
أيقنت أنّـي لامحـا *** لة حيث صار القوم صائر
-( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ): أي لتكونوا في زمرة المتّقين، فتجعلوا بينكم وبين النّار وقاية من عذاب الله، فالتقوى هي الغاية من العبادة.
وقد اختلف العلماء في معنى " لعلّ " في كلام الله عزّ وجلّ على ثلاثة أقوال:
أ) أنّها على أصلها، أي للترجي، ويكون الترجي من المخاطَب، لا من الله سبحانه.
ب) بمعنى التعليل، أي: لتتّقوا.
ت) للتّحقيق، وهو قول أكثر أهل العلم.
وبعد أن ذكّرهم الله بنعمة الخلق، ذكّرهم بنعمة الرّزق، لأنّهم كانوا يقرّون بأنّ الله هو رازقهم، كما في قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31]، فقال:
-( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا ): جعل في لغة العرب تأتي على معانٍ:
أ) بمعنى خلق، فتنصب مفعولا واحدا، قال تعالى:{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: من الآية1]، وقال:{وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: من الآية189].
وعليه تعلم بطلان استدلال القائلين بخلق القرآن بقوله سبحانه:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزّخرف: 3]؛ لأنّه تعدّى هنا إلى مفعولين لا إلى مفعول واحد.
ب) جعل بمعنى اعتقد، فتنصب مفعولين اثنين، كقوله تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف: من الآية19].
ج) جعل بمعنى صيّر، فتنصب مفعولين أيضا، ومنه قوله تعالى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف: من الآية143]، وقوله:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف: من الآية98].
-( الأَرْضَ ): سمّيت بذلك من التأرّض وهو الثّبات والاستقرار.
وقيل: سمّيت الأرض أرضاً لسعتها، من قولهم: أرِضت القرحة: إذا اتّسعت.
وقيل: لانحطاطها عن السّماء، فكلّ ما سفل فهو أرض.
وقيل: لأنّ النّاس يرضّونها بأقدامهم.
-( فِراَشًا ): أي مهادا وممهّدة كالفراش تستندون عليها، وجعلها مستقرّة كما في قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [غافر: من الآية64].
-( والسَّمَاءَ بِنَاءً ): السّماء من السموّ وهو العلوّ، وتطلق ويراد بها أمران:
أ) السّماء ذات الأطباق الزّرقاء الّتي فوقنا.
ب) وتطلق ويراد بها مطلق العلوّ، فإنّ كلّ ما علاك فهو سماءٌ، ومصداق ذلك هذه الآية:{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، والماء لا ينزل من السّماء الزّرقاء بل من السّحاب المسخّر بين السّماء والأرض، ومثله قوله عزّ وجلّ:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السّجدة: من الآية5] فليس المقصود بالسّماء هذا الجرم المخلوق، بل المراد: سدرة المنتهى؛ ولذلك يقال للمرء إذا علا: قد سما.
ومنه كان معنى قوله تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي: في العلوّ. ومنهم من ضمّن (في) معنى (على) وهو كثير في كلام العرب.
-( بِنَاءً ): أي: سقفا، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء: من الآية32].
ثمّ امتنّ الله تعالى على عباده بما أخرجه لعباده من الأرض بسبب ما أنزل عليها من ماء، فقال:
-( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ ): وكلّ ذلك دعوة لهم إلى تأمّل عجيب صنع الله في خلقه فيعودوا إليه بإفراده بالعبادة ونبذ ما سواه من الأنداد، ولذلك قال ابن المعتزّ رحمه الله:
فيا عجبا كيف يُعصى الإله *** أم كيف يجحده الجـاحـد
وفي كلّ شـيء لـه آيـة *** تدلّ عـلـى أنّـه واحـد
لذلك قال تعالى:
-( فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا ): الأنداد: جمع نِدٍّ، وهو المثيل، والكفء، والنّظير، والعديل، والمقصود: جميع أنواع الشّرك.
وذاك أعظم ذنب يرتكبه العبد في حقّ الله تعالى، روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ: (( أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ )).
قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ ! قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ: (( وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ )).
قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ: (( أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ )) فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68].
فاتّخاذ الأنداد هو الإشراك بالله في العبادة: كالدّعاء، والخوف، والرّجاء، والحبّ، والذّبح، والنّذر، والحلف، والتوكّل على غير الله، والتّشريع بغير شرع الله، والاستسقاء بغير رحمة الله، وغير ذلك من الصّور.
-( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ): أي: وأنتم تعلمون أنّ الله عزّ وجلّ هو وحده الخالق الرّزاق المدبّر لأموركم.
المسألة الثّالثة: تعظيم أمر التّوحيد.
هذه الآية تضمّنت أوّل أمر وأوّل نهي في القرآن الكريم، فكان أوّل أمر هو الأمر بتوحيد الله، وأوّل نهي هو النّهي عن الإشراك بالله عزّ وجلّ.
وهذا ما سيأتي تفصيله إن شاء الله لاحقا.