وقيل: كان هناك فرسان، أحدهما للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والآخر لأبي بردة، وهذا لا دليل عليه. أمّا ما ذكره ابن القيّم رحمه الله في " زاد المعاد " (2/92) أنّه كان لديهم خمسون فارسا ففيه نظر، وقال الحافظ في "الفتح" (7/350): " هو غلطٌ بيّن ".
ودوّى صوت الجيش وهو خارج من المدينة، فإذا برجل بلغه خبرُ انطلاقهم، فهبّ من بين أحضان امرأته، وكان حديث عهد بعرس، فلم يكترث لها، ونهض خارجا إلى جيش المسلمين ..
- إنّه حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه غسيل الملائكة .. وطوبى له ببشرى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فقد روى مسلم عن أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عنْ رسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ: رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً، أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ، يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ ...)).
انصرف عن زوجه.. وتركها منكسرةَ الخاطر.. لا تدري أتلقاه بعد هذا اليوم أم لا ؟!
ولكنّها لم تكن أشدَّ انكسارا، ولا هو كان أكثر حماساً من ذلك الشّيخ الكبير..
- عمرو بن الجموح رضي الله عنه: شيخٌ يحاصره أبناؤه الأربعة من جهة، والإعاقة من جهة أخرى.
فقد كان أعرجَ شديدَ العرج، وكان له أربعة من البنين مثل الأُسْدِ يشهدون المشاهد كلّها. فسمع بخروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى أُحُدٍ، فأراد الخروج، ولكنّ أبناءه الأربعة قالوا له:
قد جعل الله لك رخصة، فلو قعدت فنحن نكفيك، فقد وضع الله عنك الجهاد.
فأتى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم وقال له: يا رسول الله، إنّ بَنِيَّ هؤلاء يريدون أن يحبِسُوني ! ووالله إنّي لأرجو أن أستشهد معك، فأطأ بعرجتي هذه في الجنّة. فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
(( أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ وَضَعَ اللهُ عَنْكَ الجِهَادَ )) وقال لبنيه: (( وَمَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَدَعُوهُ ؟ لَعَلَّ اللهَ عزّ وجلّ أَنْ يَرْزُقَهُ الشَّهَادَةَ )).[1]
فهو يحلم أن يسير في الجنّة بتلكم الرِّجل العرجاء، فتلامسُ تربتَها الطيّبة، وتخوض في مياهها العذبة.
ولكنّه سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سؤالا كان جوابه برداً وسلاماً على قلبه .. ففي مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رضي الله عنه إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ، أَمْشِي بِرِجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ ؟
وَكَانَتْ رِجْلُهُ عَرْجَاءَ، قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( نَعَمْ ))..[2]
إجابةٌ ملأت صدرَه بالحماس .. وأَلجمَت أولادَه الأربعة، فخرجوا مع والدِهم وودّعُوا والدتَهم .. بل ربّما لم يودّعوها، فإنّها كانت عند أخيها.
- أخوها عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهم.
جابر بن عبد الله الّذي يحاول هو الآخر أن يستبقِي والدَه.. فدار بينه وبين والده حديثٌ حزين:
روى الإمام أحمد عنْ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنه قالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ رضي الله عنه مِنْ المَدِينَةِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِيُقَاتِلَهُمْ، وَقَالَ لِي أَبِي عَبْدُ اللهِ:
يَا جَابِرُ، لَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ فِي نَظَّارِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ [أي القاعدين في المدينة، لأنّهم ينتظرون المقاتلين] حَتَّى تَعْلَمَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُنَا فَإِنِّي وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي أَتْرُكُ بَنَاتٍ لِي بَعْدِي لَأَحْبَبْتُ أَنْ تُقْتَلَ بَيْنَ يَدَيَّ .
فخرج، وترك خلفه تسعَ فتياتٍ حزيناتٍ يتساءلن: أسيعودُ والدنا من المعركة، أم أنّها آخر نظرة نلقيها عليه ؟!
ولكنّه قال لولده كما في صحيح البخاري عنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قالَ:
لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنْ اللَّيْلِ، فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا.
ومشى الجيش ليُعلِيَ كلمةَ الله تعالى .. حتّى إذا بلغوا موضِعاً يقال له " الشِّيخَانِ "، استعرض صلّى الله عليه وسلّم جيشَه، فإذا ببعض الصّحابة يُخفي نفسه لئلاّ يراه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيردّه !
- أولئك هم: صغار الصّحابة .. وتمنّى المنافقون لو عادت بهم الأعوام إلى الوراء ليردّهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم..
فردّ صلّى الله عليه وسلّم من استصغره، وكان منهم أسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وسعد بن حبّة ..
أمّا عبد الله بن عمر رضي الله عنه والبراء بن عازب فما كان يطنّان أنّهما سيُردّان، فقد رُدّا في بدر لصغرهما .. فقد مرّ معنا حديث البخاري عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "اسْتُصْغِرْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ ".
واليوم لا شكّ أنّه لن يردّهما ..
- أمّا البراء بن عازب رضي الله عنه فأجازه.. وأمّا ابن عمر رضي الله عنه فلم يُجِزه.
روى البخاري ومسلم - واللّفظ لمسلم - عن نافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قالَ: عَرَضَنِي رَسُولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي "..
فرجع مكسور الخاطر حزينا ..وتلاشى مرّة أخرى حلم ابن عمر رضي الله عنه بأن يخطُوَ خطوات في درب البطولة والشّهادة.
- وبقي هناك رافع بن خديج وسمرة بن جندب رضي الله عنهما:
فتأمّلهما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فردّهما، ولكنّ الصّحابة رضي الله عنهم أخبروا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ رافعا ماهر بالرّماية، فأجازه. وهنا قام سمرة بن جندب رضي الله عنه، وقال: أَنَا أَقْوَى مِنْ رَافِعٍ ! فأمرهما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يتصارعا، فصرع سمرة رافعا، فأجازه معه.
وبهذا المكان بين أحد والمدينة، أدركهم المساء، فصلّى بهم المغرب ثمّ العشاء، وباتوا هنالك، وانتخب خمسين رجلا يتجوّلون لحراسة المكان، وكان قائدهم الفدائيّ الهُمام محمّد بن مسلمة.
هذه بعض مواقف أهل الإيمان، فما كان موقف أهل النّفاق والكفران ؟