فاعلم - أخي الكريم - أنّ العالِم أو الدّاعِية الّذي يُطعَن فيه لا يخلو من حالين:
أ) إمّا أن يكون ظالما لنفسِه، فيصدق فيه قول الباري سبحانه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}.
ب) أو بكون مظلوما، فيصدُق فيه قوله عزّ وجلّ:{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ}.
وعليه، فلا بدّ من طاعن.
ومن أصـلـح فاسـدا أغـاظ حاسـدا. وقد قيل:" إذا طُعِنت من الخلف، فاعلم أنّك في المقدّمة ".
- ثانيا: بيان أسباب السّكوت.
فاعلم - أخي الكريم - أنّ سُكوتَ من سكتَ لم يكُن عن جهل أو جبن، ولكن عن علم وحِلم.
ومن جملة أسباب السّكوت عن الطّاعنين:
أ) كيلا ينفُخَ في الفتنة، فتزداد نارُها، ويشتدّ أوارها.
ولا يخفَى عليك أنّ كثيرا ممّن حملوا لواء الطّعن والإقصاء، ينتظرون الرّد عليهم على أحرّ من الجمر. فهو من ذلك يستمدّ قوّته، ويُشبِع سطوتَه.
وإلاّ، فدُلّني على أحدٍ رَدّ عليهم فألجمهم سكوتا، وأصاب قُواهم خفوتا ؟!
دعْ كيْدَ الحسُود *** فإنّ كيدَه يقتُلُـه
النّار تأكل نفسَها *** إن لم تجد ما تأكله
ب) كيلا يُحمَل الكلامُ على غير محمله:
وتأمّل جيّدا ما رواه البخاري عن ابن عبّاس رضي الله عنه يوم أراد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بمِـنًى أن يردّ على من قال:" مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ " !
غضب عمرُ ثمّ قال: إِنِّي إِنْ شَاءَ اللهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ، فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ !
هنالك نطق كبار أهل العلم، فقال عبدُ الرّحمن بن عوف رضي الله عنه:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لَا يَعُوهَا وَأَنْ لَا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ، فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ، وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا ".
فربّما جاز وساغ أن يتكلّم هذا الدّاعية المظلوم في المجالس الخاصّة مع خاصّة النّاس، أمّا في المجالس العامّة، أو المنتديات، فحكمُها حكمُ مِـنًـى !
ج) الرّحمة والرّفق بالنّاس:
فما ذنب عامّة النّاس الّذين يقصِدون مجالس العلم ليزدادوا إيمانا وصلاحا ؟ وما ذنب طلبة العلم الذين يقصدون مجالس العلم ليزدادوا ثباتا وفلاحا ؟ ما ذنب هؤلاء في أن تُدخِلَهم في صراعات ليس لها نهاية، وتخدم للأعداء ألف ألف غاية ؟!
وقد قيل:" لا تتحدّى إنسانا ليس لديه ما يخسره ".
- ثالثا: ردّ دون ردّ.
فما من داعية مصلح إلاّ وهو يردّ على طاعنِيه، ولكنّه ردّ دون ردّ، وذلك من وجوه:
أ) فالسّكوت أحيانا أبلغ من الكلام. قال أبو العتاهية:
( الصّمْتُ ألْيَقُ بالفَتَى ... مِنْ مَنْطِقٍِ فِي غَيْرِ حِينِهِ )
ب) المُضِيّ في طريق الإصلاح أعظم من ردّ طُعونهم. لأنّ مراد الشّيطان هو ضياع الدّعوة لا ضياع الأشخاص.
وانتبه جيّدا لكلام الشّيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله:
" فلا نعجب لمن يُعارض ويُكايد ويُمَاري، ولكنّنا نعجب لأنفسنا ولكم إذا أقمنا لتلك المعارضات والمكائد وزناً ! أو شغلنا بها حيزا من نفوسنا ! أو أضعنا فيها حصّةً من أوقاتنا ! وإنّ أدنى ما يغنمه المبطل أن يضيّع الوقتَ على المحقّ.
وإنّني أوصيكم ونفسي في هذا المقام أن يكون في حقّكم شاغل لكم عن باطل المبطلين، فإذا قام حقّكم واستوى، قضيتم على المبطلين وباطلهم، وإنّنا نُشهِد الله والمنصفين من الأمّة على أنّنا ماضون في بيان الحقّ، وأنّ مبدأنا الإصلاحيَّ التهذيبيّ قد ملك علينا حواسّنا وأوقاتَنا.
فإذا بدر منّا في بعض الأوقات كلامٌ على باطل المبطلين، فليس ذلك عن قصدٍ له وحفلٍ به، ولكن لأنّه صادمنا، وتوقّف إثباتُ حقِّنا على نفيِه. وما حيلة من يسلك سبيلا فتعترضه الصّخور حتّى لا يجد عنها محيدا ؟!
إنّ الضرورة تقضي عليه أن يجهد في نزعها وإماطتها، ثم لا يكون جهده في ذلك إلا كتماديه في السّير " ["الآثار" (4/165-166)].
ج) ثمّ إنّ في الإصلاح أعظمَ ردٍّ على الطّاعن.
فأحسن طريق لإيقاف هذا الزّحف الإسقاطيّ، هو: تفسير القرآن، وشرح السّنن، والدّعوة إلى الأخلاق.
فستجد نفسك تدكّ صروح هذا المنهج ! دون خسائر، فتتكلّم على ذمّ الغيبة، والنّميمة، وسوء الظنّ، وعدم التثبّت، وتتبّع العورات، ونبذ أسباب الخلاف والشّقاق، وغير ذلك من المفاسد الّتي يدينون بها.
هذا ما أمكنني قوله باختصار، وتذكّر فضل إخلاص العمل لله تعالى، فإنّ من أعظم ثمراته ألاّ تحمل في قلبِك غلاًّ لأحدٍ.
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( ثَلاَثٌ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِىءٍ مُؤْمِنٍ: إِخْلاَصُ العَمَلِ للهِ، وَالمُنَاصَحَةُ لِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دُعَاءَهُمْ يُحِيطُ مَنْ وَرَائهم )).
فالمخلص لا يجد غِلاًّ ولا حقدا على إخوانه؛ لأنّه يعمل لله تعالى:
فإذا أحسنَ ولم يُعرَف بإحسانه، فكفى بالله شهيدا على عمله.
وإن أحسن ولم يُشكر على إحسانه، فكفى بالله تعالى شاكرا لعبده.
وإذا أخطأ أحدٌ في حقّه، فإنّه يعفو ويصفح، وإن هجر فتراه يهجر هجرا جميلا.
ومن محاسن ما يُروَى عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه كان يوما في قلب المعركة، فلمّا تمكّن من قتل مشركٍ، بَصَقَه المشركُ وسبّه !
فأمسك عنه عليّ رضي الله عنه، فلمّا قيل له في ذلك ؟ قال: كنت أريد قتلَه لشركه، فلمّا سبّني خشيت أن أقتله انتقاما لنفسي !
هذا هو النّصر الحقيقيّ.
وأختم هذه الكلمة بما ذكره ابن عبد البرّ رحمه الله قال:" كتب عمر إلى معاوية أن: اِلْزَمْ الحَقَّ، يُنْزِلْكَ الحقُّ منَازِلَ أهْلِ الحَقِّ، يَوْمَ لاَ يُقْضَى إِلاَّ بِالحَقِّ، والسّلام " ["بهجة المجالس"].
والله الموفّق لا ربّ سواه.