الفائدة الثّانية: لماذا ذكر الله تعالى صراط المنعَم عليهم ؟
في ذلك حِكَمٌ ثلاث:
* الحكمة الأولى: أنّ سنّة الله تعالى قد مضت أنّ سالكي طريق الحقّ قلّة قليلون، وأكثر النّاس عنه ناكبون، كما قال تعالى ذامّا الكثرة: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116].
وقال مادحا القلّة:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} [سـبأ: من الآية13]، وقال:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُم} [صّ: من الآية24].
فعندئذ يستوحش السّالكون لطريق الحقّ، فذكّرهم الله تعالى بأنّ على الطّريق رفقاء، بل هم أعظم وأفضل وخير الرّفقاء: وهم النبيّون والصدّيقون والشّهداء والصّالحون.
وبذلك تزول وحشتهم، ويأنسون بهم في غربتهم، فلا عبرة بخلاف من خالف، ولا حلف من حالف.
ومن نفائس ما أُثِر عن الفضيل بن عياض رحمه الله قوله:" عليك بطريق الحقّ ولا تستوحش قلّة السّالكين، وإيّاك وطريق الباطل ولا تغترّ بكثرة الهالكين ".
وما أحسن ما قاله ابن القيّم رحمه الله في " المدارج ":
" وكلّما استوحشت في تفرّدك فانظر إلى الرّفيق السّابق، واحرص على اللّحاق بهم، وغُضَّ الطّرف عمّن سواهم، فإنّهم لن يُغنوا عنك من الله شيئا.
وإذا صاحوا بك في طريق سيرِك فلا تلتفت إليهم، فإنّك متى التفتّ إليهم أخذوك وعاقوك، وقد ضربت لذلك مثلين، فليكونا منك على بال:
- المثل الأوّل:
رجل خرج من بيته إلى الصّلاة لا يريد غيرها، فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس، فألقى عليه كلاما يؤذيه، فوقف وردّ عليه، وتماسكا، فربّما كان شيطان الإنس أقوى منه فقهره، ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتّى فاتته الصّلاة، وربّما كان الرّجل أقوى من شيطان الإنس، ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصفّ الأوّل وكمال إدراك الجماعة.
فإن التفت إليه أطمعه في نفسه، وربّما فترت عزيمته، فإن كان له معرفة وعلم زاد في السّعي والجمَز بقدر التفاته أو أكثر، فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده وخاف فوت الصّلاة أو الوقت، لم يبلغ عدوّه منه ما شاء.
- المثل الثّاني: الظّبي أشدّ سعيا من الكلب، ولكنّه إذا أحسّ به التفت إليه فيضعف سعيه، فيدركه الكلب فيأخذه.
والقصد أنّ في ذكر هذا الرّفيق ما يزيل وحشة التفرّد، ويحثّ على السّير والتّشمير للّحاق بهم " اهـ.
* الحكمة الثّانية: أنّ في قولك:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)} توسّلا إلى الله بصفة من صفاته، وهي إنعامه وإحسانه إلى من أنعم عليهم بالهداية، وكأنّك قلت: يا منعم أنعم عليّ كما أنعمت على النبيّين والصدّيقين والشّهداء والصّالحين.
* الحكمة الثّالثة: أنّ هذا الدّعاء تضمّن أعظم ما يمكن أن يطلبه المرء هو أن يجمعه بأحبّ الخلق إلينا وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
روى الطّبراني عن ابن عبّاس[1]:
" أنّ رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله ! إني لأحبّك، حتّى إنيّ لأذكرك فلولا أنيّ أجئ فأنظر إليك ظننت أن نفسي تخرج، [وفي رواية: أكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتّى آتيك فأنظر إليك] فأذكر أنّي إن دخلت الجنّة صِرْتُ دونك في المنزلة فشقّ ذلك عليّ وأحبّ أن أكون معك في الدّرجة.
فلم يردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا، فأنزل الله عزّ وجلّ:{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ..} الآية، فدعاه رسول اللهصلّى الله عليه وسلّم فتلاها عليه ".
لذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يشير إلى هذه الآية، فقد أشار إليها في حياته، وعلى فراش الموت:
أمّا الإشارة إليها في حياته ففيما رواه البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم صَعِدَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ y، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ: (( اثْبُتْ أُحُدُ ! فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ )).
أمّا الإشارة إليها في مرض موته، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ يَقُولُ:{مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} فَظَنَنْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ.
الفائدة الثّالثة: المقصود بالمغضوب عليهم والضّالّين.
كلّ من كفر بالله فهو مغضوب عليه وضلّ عن سواء السّبيل، قال تعالى في بيان ضلال كلّ كافر:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النّساء: من الآية116]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:167].
وقال في بيان غضبه على كلّ كافر:{مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: من الآية106].
ولكنّ جمهور المفسّرين قالوا: إنّ المقصود بالمغضوب عليهم في الآية هم اليهود، والضّالّون هم النّصارى، وذلك لوجوه كثيرة:
1- أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسّر الآية بذلك، فقد روى الإمام أحمد والتّرمذي والطّبريّ وغيرهم عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ الْيَهُودُ وَ الضَّالِّينَ النَّصَارَي ))[2].
2- ما رواه البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ.
فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ، فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي ؟
فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ !
قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟
قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا.
قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ ؟
قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ عليه السّلام، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ.
فَخَرَجَ زَيْدٌ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ !
قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ ! فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟
قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا.
قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ ؟
قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ عليه السّلام، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ.
فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عليه السّلام خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ:" اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عليه السّلام".
3- وصفهم في القرآن، فكثر ما جاء في وصف اليهود هو نزول غضب الله عليهم، وأكثر ما جاء في وصف النّصارى هو أن حلّ عليهم الضّلال:
قال تعالى في شأن اليهود:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: من الآية89]، حتّى قال: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: من الآية90]، وقال:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ..} حتّى قال:{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:61]، وقال:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: من الآية60]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152].
وقال عن النّصارى بعد ما ذكر كفرهم:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
الفائدة الرّابعة: لماذا خُصّ كلّ من الطّائفتين بهذا الوصف.
فإنّ اليهود والنّصارى وكلَّ مشرك وكافر وإن كانوا ضالِّين مغضوبا عليهم جميعا، إلاّ:
أنّ اليهود خُصُّوا بالغضب لأنّهم عرفوا الحقّ فلم يعملوا به وكتموه.
والنّصارى خصُّوا بالضّلال لأنّهم جهلة لا يبصرون الحقّ، فكان الضّلال ملازما لهم.
- ولو تأمّل المتأمّل لوجد أنّ بني إسرائيل الّذين اشتهروا بقتل الأنبياء هم اليهود، والنّصارى طورِد نبيّهم حتّى إنّهم ليظنّون أنّه قتل.
- بل لو تأمّل المتأمّل لرأى أنّ اليهود هم أهمّ عامل لطمس معالم دعوة عيسى عليه السّلام إذ ظاهروا عليه الوثنيّين من عبّاد الكواكب الرّوم.
- ولو تأمّل المتأمّل لرأى أنّ أتباع موسى عليه السّلام تمرّدوا عليه في حياته، وخرجوا عن التّوحيد في حياته، بخلاف النّصارى فقد دخلهم التّحريف والكفر بعد رفع عيسى عليه السّلام إلى السّماء.
- ولو تأمّل المتأمّل لرأى أنّ الدّيانة النّصرانيّة اشتهرت لدى العرب لكن ليس كاشتهار اليهوديّة، ويظهر لك جليّا في قول ورقة بن نوفل: (( هذا النّاموس الّذي أنزل على موسى عليه السّلام)) مع أنّه كان قد تنصّر.
- ثمّ إنّ القرآن يشير إلى أنّ الممتثل للدّيانة النّصرانيّة أقرب إلى أن يُسلم ممّن هو معتنق لليهوديّة، قال تعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82].
ولذلك قال العلماء في تفسير قول الله لعيسى عليه السّلام:{وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: من الآية55] قالوا: المسلمون فوق النّصارى إلى يوم القيامة، والنّصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة.
وقال كثير من السّلف: كلّ من علم ولم يعمل كان فيه شبهٌ باليهود، وكلّ من عمل بلا علم كان فيه شبه من النّصارى.
والصّراط المستقيم السويّ الحقّ هو الوسط: أن يتّصف المسلم بالعلم والعمل بالعلم.
ونظير ذلك ما رواه التّرمذي وأبو داود وابن ماجه عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الحَصِيبِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ، فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ )).
الفائدة الخامسة: الشرّ لا يُضاف إلى الله.
خالق الخير والشرّ هو الله تعالى، ولكنّ الشرّ لا يُنسب إلى الله، لأنّ الشرّ المحض لا تتّصف به أفعاله، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول مناجيا ربّه: (( وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ )).
لذلك تلحظ كيف ذُكر الفاعل في الخير وحُذف الفاعل في الشرّ، في الآية:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}.
فذكر فاعل الإنعام، وحذف فاعل الغضب، ونسب الضّلال إلى النّصارى.
وهذه طريقة القرآن في إسناد الخير والنّعم إلى الله، ونسبة الشرّ إلى غيره.
كقول مؤمني الجنّ:{وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجـن:10].
وكقول إبراهيم عليه السّلام:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشّعراء].
وكقول الخضر عليه السّلام فيما ظاهره الشرّ:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: من الآية79]، وقوله عن النّعمة الظّاهرة:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: من الآية82].
وكقوله تعالى مخبرا عن أهل الضّلال:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: من الآية48]، {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة: من الآية212]، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران: من الآية14].
وقوله عن النّعم:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: من الآية32]، وقوله:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف: من الآية7]، وغير ذلك ممّا لا يُحصى.
الفائدة السّادسة: فاتحة الكتاب شفاء.
فإذا تأمّل المسلم ووقف طويلا أمام معاني هذه السّورة، لأدرك أنّ أحقّ وصف لسورة الفاتحة هو ما جاء من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي سعِيدٍ رضي الله عنه: (( وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ ؟)) أي: شفاء.
وقد روى الدّارمي بإسناد ضعيف عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه مرفوعا: (( فَاتِحَةُ الكِتَابِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ سُقْمٍ ))، ولكنّ معناه صحيح.
فقد قال ابن القيّم رحمه الله في " مدارج السّالكين ":
" فإذا عوفيَ [أي: العبد] من مرض الرّياء بـ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ومن مرض الكبرياء والعجب بـ: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ومن مرض الضّلال والجهل بـ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل في أثواب العافية، وتمّت عليه النّعمة، وكان من المنعم عليهم:{غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم أهل فساد القصد، الّذين عرفوا الحقّ وعدلوا عنه، والضّالّين وهم أهل فساد العلم، الّذين جهلوا الحقّ ولم يعرفوه، وحقّ لسورة تشتمل على هذين الشّفائين أن يستشفى بها من كلّ مرض "اهـ.
فلله الحمد والمنّة، لا نُحصي ثناء عليه كما أثنى هو على نفسه.
[2] وهذا الحديث له طرق يصل بمجموعها إلى درجة الصحّة كما حقّقه الشّيخ مصطفى العدويّ.