ففي الآية الأولى ينفي الهداية عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وفي الثّانية يثبت له الهداية إلى صراط مستقيم، فتحمل الأولى على هداية التّوفيق، والثّانية على هداية الدّلالة.
والمقصود بالآية النّوعان معاً: أي دُلّنا على الخير، ووفّقنا إليه.
الفائدة الثّانية: ثمرة سؤال الله الهداية.
قد يقول قائل: كيف يسأل المؤمن الهداية وهو متّصف بها ؟
والجواب أن يقال: إنّ المراد بقول الدّاعي: ( اهدِنا ) أمران:
1- فالأوّل: طلب الزّيادة من الهدى والإيمان، فالإيمان يزيد وينقص، والعلم يزيد وينقص، والعمل يزيد وينقص، فيكون ذلك موافقا لقوله تعالى:{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} [مريم: من الآية76]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
2- والثّاني: الثّبات عليه، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: من الآية136]، أي: اثبتوا على الإيمان، كما تقول للرّجل وهو يدرس: ادرس، أي اثبت على الدّراسة.
فمعنى ( اهدنا الصّراط ) أي: زدنا هدى، وثبّتنا عليه.
الفائدة الثّالثة: بيان معنى الصّراط.
الصّراط في اللّغة: هو الطّريق والسّبيل الواضح، وسمّي الطّريق صراطا لأنّ السّائر فيه يغيب فكأنّه استرطه، ومنه داء السّرطان لأنّه يبتلع الجسد.
وفيه لغات ثلاث، قال الجوهريّ: " الصّراط والسّراط والزّراط: الطّريق ". والعرب تبدل السّين زايا، كقولهم " مهراز " وهو المهراس أي: أداة الهرس.
والمراد به في الآية: هو الطّريق الموصل إلى الله، وإلى كلّ ما يحبّه الله.
وقد كثرت عبارات السّلف في ذلك وهي كلّها صحيحة، غاية ما في الأمر أنّ من السّلف من يفسّر الآية أحيانا بالمثال:
- فمنهم من قال: هو القرآن.
- وآخر قال: إنّه الإسلام، فقد روى أحمد عن النّوّاسِ بن سمعان الأنصاريّ رضي الله عنه عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قال::
(( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ ! ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَتَفَرَّقُوا. وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ ! لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ.
وَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ )).
- وثالث قال: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
- ومنهم من قال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
- وآخر قال: كلمة لا إله إلاّ الله.
- وآخر فسّرها قائلا: اسلكنا سبيل الجنّة، ليقابل بذلك قول الله في حقّ أهل النّار:{فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافّات: من الآية23]، أي: أدخلوهم النّار، كما تُهدى المرأة إلى زوجها.
ويجمعها كلّها قولك: صراط الخير، والصّراط الموصل إلى الله.
قال ابن كثير رحمه الله:
" وإن كان حاصلها يرجع إلى شيء واحد، وهو المتابعة لله وللرّسول صلّى الله عليه وسلّم .. وهي متلازمة، فإنّ من اتّبع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم واقتدى بالّذين من بعده أبي بكر وعمر فقد اتّبع الحقّ، ومن اتّبع الحقّ فقد اتّبع الإسلام، ومن اتّبع الإسلام فقد اتّبع القرآن، وهو كتاب الله وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فكلّها صحيحة يصدّق بعضها بعضا، ولله الحمد "اهـ.
الفائدة الرّابعة: صراط الله واحد.
قال تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس: من الآية32]، وأمّا طرق أهل الغضب والضّلال فلا تنحصر، لذلك قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
روى الإمام أحمد وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: (( هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ))، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: (( هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ )) ثُمَّ قَرَأَ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.
ويمكن أن يستنبط من آية الفاتحة نفسِها أنّ الصّراط واحد:
فقد تكرّر ذكر الصّراط مرّتين معرفة، والعرب إذا أعادت الشّيء معرّفا كان هو نفسَه، وإن أعادته نكرة كان غيرَه، ومنه ما يُروى عن ابن مسعود وعليّ وعمر رضي الله عنهم أنّهم قالوا في سورة الشّرح: ( لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ )، لأنّ العسر ذكر مرّتين معرفة فكان واحدا، وذكر اليسر نكرة مرّتين فكان اثنين.
أمّا جمع ( السّبل ) في قوله تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة: من الآية16]، فلا يعارض ما ذُكِر، لأنّ المقصود بالسّبل: فروع الإسلام والإيمان وشعبهما، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ )) [رواه مسلم، ورواه البخاري بلفظ " وستّون "].
الفائدة الخامسة: سؤال الله الاستقامة.
الاستقامة هي كون الشّيء قَوامًا وَسَطًا، كما قال تعالى في الإنفاق:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67].
وهي أعظم ما يسأله العبد ربّه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" إنّ أعظم كرامة هي الاستقامة ". لذلك علّمنا الله تعالى أن نسأله الصّراط المستقيم في كلّ شيء، وذلك لأسباب:
- أنّ الخطّ المستقيم أسلم الخطوط.
- أنّ الخطّ المستقيم أقرب الخطوط الّتي تصل بين نقطتين، قال ابن القيّم في " مدارج السّالكين "(1/10):
" فوصفه بالإستقامة يتضمّن قربَه، لأنّ الخطّ المستقيم هو أقرب خطّ فاصل بين نقطتين، وكلّما تعوّج طال وبعُدَ ".
وقال الفخر الرّازي:" اعلم أنّ أهل الهندسة قالوا: الخطّ المستقيم هو أقصر خطّ يصل بين نقطتين ".
إذن فما يراه النّاس أحيانا أنّ طريق الحقّ طويل، فذلك إنّما في الظّاهر مقارنة مع الخطّ المعوجّ، تظنّ أنّه محدود، وإنّما هو معوجّ لا تسير عليه حتّى ترى ما لم يكن يخطر ببال، ويُفسد كلّ حال.
- أنّ الخطّ المستقيم واضح المعالم، ترى الشّيء فيه من بعيد، فكذلك صراط الإسلام، يُبْصِر المؤمن فيه الشرّ والخير ولو من وراء الشّبهات.
الفائدة السّادسة: هل يُطلق لفظ " الصّراط " على الذّوات ؟
الصّراط وإن كان معناه الطّريق، إلاّ أنّه يستعمل في المعاني، والطّريق يستعمل في المعاني والذّوات.
إلاّ الجسر الممدود على جهنّم يوم القيامة، فهو شيء مادّي وسمّي صراطا، ولعلّ الحكمة من ذلك ما ذكره ابن القيّم رحمه الله في بيان وجه الشّبه بين صراط الدّنيا، وصراط الآخرة، فقال رحمه الله:
" وآخر مراتبها - أي: الهداية - هي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنّة، وهو الصِّراط الموصِلُ إليها، فمن هُدِيَ في هذه الدّار إلى صراط الله المستقيم الّذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، هُدِي هناك إلى الصّراط المستقيم الموصِل إلى جنّته ودار ثوابه.
وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصّراط الّذي نصبه الله لعباده في هذه الدّار، يكون ثبوت قدمه على الصّراط المنصوب على متن جهنّم، وعلى قدر سيره على هذه الصّراط، يكون سيره على ذاك الصّراط..
فمنهم من يمرّ كالبرق، ومنهم من يمرّ كالطّرْف، ومنهم من يمرّ كالرّيح، ومنهم من يمرّ كشدّ الرّجال، ومنهم من يسعى سعيا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يحبو حبوا، ومنهم المخدوش المسلَّم، ومنهم المكردس في النّار.
فلينظر العبد سيره على ذلك الصّراط من سيرِه على هذا حذو القذّة بالقذّة {جَزَاءً وِفَاقاً}، {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
ولينظر الشّبهات والشّهوات الّتي تعوقه عن سيره على هذا الصّراط المستقيم، فإنّها الكلاليب الّتي بجنَبَتَي ذاك الصّراط، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت، فكذلك هي هناك،{وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}، فسؤال الهداية متضمّن لحصول كلّ خير، والسّلامة من كلّ شرّ ".اهـ