- الشّرح:
-( شرائع ): جمع ( شريعة )، وهي في أصل اللّغة: مورد الإبل على الماء الجاري. وكلّ ما وضعه الله لعباده وأظهره ليسيروا عليه من الفرائض والسّنن فهو شريعة، ومنه الطّريق الواسع الظّاهر يسمّى شارعا.
قال القاري رحمه الله: الظّاهر أنّ المراد بها هنا النّوافل لقوله: ( قد كثرت عليّ ) أي: غلبت عليّ بالكثرة حتّى عجزت عنها لضعفي.
-( أتشبّث به ): أي: أتعلّق.
-( فأخبرني بشيء ): قال الطّيبي رحمه الله: التّنكير في (بشيء) للتّقليل المتضمّن لمعنى التّعظيم، كقوله تعالى:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ}.
ومعناه: أخبرني بشيء يسير مستجلب لثواب كثير، ويدلّ على التّعظيم قوله: (أتشبّث به) أي: أتعلّق به وأستمسك، ولم يُرِد أنّه يترك شرائع الإسلام رأسا، بل طلب ما يتشبث به بعد الفرائض عن سائر ما لم يفترض عليه.
-( لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ ): أي: طريّا. وهذا أسلوب خبريّ يُراد منه الأمر، وكأنّه قال: اجعل لسانك رطبا من ذكر الله.
وهو أمر بالمداومة والإكثار من ذكر الله عزّ وجلّ، لأنّ ما يجري على اللّسان يثبت في الجَنان، وقديما قالوا:" ما فيك ظهر على فيك "، وكثيرا ما يكون اللّسان دليلا على القلب، كقوله تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:الآية 4].
ومن بديع فقه السّلف: قول أبي عثمان النّهدي: إنّي لأعلم السّاعة الّتي يذكرنا الله فيها. فقيل له: ومن أين تعلمها ؟ قال: يقول الله عزّ وجلّ:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}. فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة ؟! فقال: احمدوا الله تعالى على أن زيّن جارحة من جواركم بطاعته.
الشّاهد من الحديث: أنّ الذّكر بأنواعه، مفضّل على جميع العبادات، ووجه الدّلالة: أنّ العبد إذا كثرت عليه الشّعائر تمسّك بأفضلها، وهو الذّكر.
وهل هو أفضل من الجهاد في سبيل الله ؟ هذا ما يأتي بيانه في الحديث الّذي بعد الحديث الآتي.
***
(6)- الحديث الّسادس:
وعن مالك بنِ يخامرَ أنّ معاذَ بنَ جَبَلٍ رضي الله عنه قال لهم: إِنَّ آخِرَ كَلاَمٍ فَارَقْتُ عَلَيْهِ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَنْ قُلْتُ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ ؟ قال:
(( أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ )).
[رواه ابن أبي الدّنيا، والطّبراني-واللّفظ له-، والبزّار، إلاّ أنّه قال: ( أَخْبِرْنِي بِأَفْضَلِ الأَعْمَالِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى اللهِ )، وابن حبّان في "صحيحه "]
***
(7)- الحديث الّسابع:
وعن أبي الدّرداءِ رضي الله عنه قال: قال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
(( أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ )). قَالُوا: بَلَى. قَالَ:
(( ذِكْرُ اللهِ تعالى )).
قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه:" مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ".
[رواه أحمد بإسناد حسن، وابن أبي الدّنيا، والتّرمذي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي، وقال الحاكم:"صحيح الإسناد"].
- شـرح:
هذا الحديث ظاهره أنّ الذّكر بمجرّده أفضل من الجهاد، وأفضل من الإنفاق، وقد يُعارض هذا الظّاهر:
أ) أنّ الجهاد والإنفاق في سبيل الله من النّفع المتعدّي، والذّكر عبادة نفعُها قاصر على الذّاكر.
ب) وقد سئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن أفضل الأعمال فقال: (( إِيمَانٌ بِاللهِ ))، ثمّ قيل: أيّ ؟ فقال: (( جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ))، ثمّ قيل: ثمّ أيّ ؟ فقال: (( حَجٌّ مَبْرُورٌ )).
ج) وقد ورد في فضل المجاهد أنّه كالصّائم لا يفطر، وكالقائم لا يفتر، وغير ذلك ممّا يدلّ على أفضليّته على غيره من الأعمال الصّالحة.
فاختلفت أجوبة العلماء عن ذلك:
1- فقيل: يحتمل أن يكون عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم في أَفضل الأعمال: (( جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ )) خُصّ بهذا الحديث، وهذا الجواب ذكره الحافظ رحمه الله.
2- وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: الجهاد أفضل الأعمال الّتي هي وسائل، لأنّ الجهاد وسيلة إلى إعلان الدّين ونشره وإخماد الكفر ودحضه، والذّكر أفضل الأعمال الّتي هي غاية، والله أعلم.
3- ومنهم من قال: يفضّل الذّكر على الجهاد المندوب لا فرض العين.
4- ومنهم من جعل الأصل هو تفضيل الذّكر، ولكن عند قيام أمر الجهاد فإنّه لا يعدله شيء، قال ابن تيمية رحمه الله:
" أمّا ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض فإنّه يختلف باختلاف النّاس فيما يقدرون عليه، وما يناسب أوقاتهم، فلا يمكن فيه جواب جامع مفصّل لكلّ أحد، لكن ممّا هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره أنّ ملازمة ذكر الله دائما هو أفضل ما شغل العبدُ بهِ نفسه في الجملة، وعلى ذلك دلّ حديث أبى هريرة الّذي رواه مسلم: (( سَبَقَ المُفَرِّدُونَ )) قالوا: يا رسول الله، ومن المفرّدون ؟ قال: ((الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ))، وفيما رواه أبو داود عن أبى الدّرداء رضي الله عنه ..." ثمّ ذكر الحديث ["المجموع" (10/660)].
5- ومنهم من فصّل، قال ابن القيم رحمه الله في "تهذيب السّنن" (7/126):
" والتّحقيق في ذلك أنّ المراتب ثلاثة:
المرتبة الأولى: ذكر وجهاد، وهي أعلى المراتب، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].
المرتبة الثّانية: ذكر بلا جهاد، فهذه دون الأولى.
المرتبة الثّالثة: جهاد بلا ذكر، فهي دونهما، والذّاكر أفضل من هذا، وإنّما وُضِع الجهاد لأجل ذكر الله، فالمقصود من الجهاد أن يُذكر الله ويعبدَ وحده، فتوحيده وذكره وعبادته هو غاية الخلق التي خلقوا لها، والله أعلم "اهـ.
وكلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري " قريب من هذا، إذ قال:
" طريق الجمع -والله أعلم- أنّ المراد بذكر الله في حديث أبي الدّرداء رضي الله عنه الذّكر الكامل، وهو ما يجتمع فيه ذكر اللّسان والقلب بالتفكّر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وأنّ الّذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممّن يقاتل الكفّار مثلا من غير استحضار لذلك، وأنّ أفضلية الجهاد إنّما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرّد، فمن اتّفق له أنّه جمع ذلك، كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه أو قتاله الكفار مثلا فهو الذي بلغ الغاية القصوى، والعلم عند الله تعالى ".
وأجاب القاضي أبو بكر بن العربيّ رحمه الله: بأنّه ما من عمل صالح إلاّ والذّكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله بقلبه عند صدقته أو صيامه مثلا فليس عمله كاملا، فصار الذّكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية " اهـ.
***
(8)- ورواه أحمد أيضا من حديث معاذ بإسناد جيّد، إلاّ أنّ فيه انقطاعاً.
(9)- وعن عبد اللهِ بنِ عمرٍو رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنّهُ كان يقول:
(( ...، وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ )).
قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ:
(( وَلَوْ أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ )).
[رواه ابن أبي الدّنيا، والبيهقيّ من رواية سعيد بن سنان، واللّفظ له].
- شـرح:
- ( ... ) أوّل الحديث: (( إنّ لكلّ شيء صَقَالة، وإنّ صقالة القلوب ذكر الله ))، ولا تصحّ، لذلك ذكرها الشّيخ الألباني رحمه الله في "ضعيف التّرغيب والتّرهيب".
قال في "لسان العرب":" الصّقل الجلاء "، أي: النّقاء والصّفاء.
ومثله في الضّعف الحديث الّذي رواه الطّبراني في "الأوسط" عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ لِلْقُلُوبِ صَدَأً )) قَالُوا: فَمَا جَلاَؤُهَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قال: (( جَلاَؤُهَا الاِسْتِغْفَارُ )).
وكذلك الحديث الّذي رواه القضاعيّ في " مسند الشّهاب " عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ هَذِهِ القُلُوبَ تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الحَدِيدُ )) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! فَمَا جَلاَؤُهَا ؟ قال: (( ذِكْرُ المَوْتِ، وَتِلاَوَةُ القُرْآنِ )).
- قوله: ( وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ): سئل معاذ بن جبل رضي الله عنه عن ذلك فقال: لأنّ الله تعالى يقول:{وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ}.
-قوله: (( وَلَوْ أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ )): ولم يقل: حتّى يموت، كناية عن طول جهاده وكثرته، فلا شكّ أنّه أعظم ممّن لم يطل جهاده.
ثمّ إنّ فهذا الّذي طال جهاده، جعله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دون الذّاكر في المنزلة !