ولكنّ الجوهري رحمه الله تعالى نؤمن بجلالته ولا نؤمن بعصمته، وإذا كان علماء اللغة العربيّة لا يحتجّون بكلام بشّار بن برد والمتنبّي وغيرهم من الشّعراء الفحول الذين إذا ذكروا ذكر الشّعر، فكيف بغيرهم ؟!.
وقد وضع العلماء رحمهم الله تعالى حدّا زمانيّا وحدّا مكانيّا للاحتجاج بكلام العرب، وبيّنوا أنّ ما خرج عن هذه الحدود فهو منبوذ مردود.
أمّا الحدّ الزّماني: فهو من العصر الجاهلي إلى سنة 150هـ، حيث اختلط العرب بالعجم وظهر في كلامهم من اللّحن والخطأ ما الله به عليم.
وأمّا الحدّ المكاني: فبعض القبائل لا يُحتجّ بكلامها وإن كانت في العصر الجاهليّ، كقبيلة لخم وجذام الذين كان منهم نصارى وصلّون ويتكلّمون بغير اللّسان العربيّ، فدخل في لسانهم ما لا تعرفه العرب، حتّى إنّ بعض علماء اللغة العربيّة كابن حيّّان رحمه الله كان ينكر أشدّ الإنكار على ابن مالك رحمه الله تعالى استشهاده بأشعارهم وكلامهم.
وفي المقابل تجدهم ينصّون على حجّية كلام بعض القبائل وإن كانوا بعد 150هـ كبعض قبائل اليمن مثل " عكاد "، ويذكر صاحب " القاموس " وشارحه أنّ هؤلاء القبائل كانوا على السّليقة إلى غاية القرن الخامس، وكانوا لا يستضيفون أحدا أكثر من ثلاث ليال، ولا يتركون الضّيف يخالط أطفالهم خشية منهم على تغيّر لسانهم.
على كلّ حال نعود إلى موضوعنا، ألا وهو أنّ معتمد النّاس في استعمال كلمة " سائر " بمعنى " كلّ " هو الإمام الفحل الجوهريّ، ومن ثمّ ترى بعض علماء الأصول يذكر ( سائر ) من ألفاظ العموم. والحقّ أنّ معناها ( باقي )، ويمكن أن يكون اشتقاق ( سائر ) من السّؤر، وهو البقيّة من الشّيء.
ولو قالوا: إنّ معناها: هو كلّ ما بقي، لكان قولهم قد أصاب كبد الصّواب.
وانظر كلام أهل العلم في بيان المعنى الصّحيح لكلمة " سائر " ( درّة الغواص ) للإمام الحريري، و(شرح قصيدة " بانت سعاد ") لابن هشام الأنصاري، وغيرهم.
والأدلّة على أنّ كلمة "سائر" معناها ( باقي ) لا ( كلّ ) كثيرة جدّا، منها:
- ما رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: " كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ، ثُمَّ تَقْتَرِصُ الدَّمَ مِنْ ثَوْبِهَا عِنْدَ طُهْرِهَا، فَتَغْسِلُهُ، وَتَنْضَحُ عَلَى سَائِرِهِ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ "، وواضح من قولها " تنضح على سائره " أنّها تريد: باقيه.
- ما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها " أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ حِزْبَيْنِ، فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالْحِزْبُ الْآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ".
-ومنها أيضا ما رواه البخاري ومسلم عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ: (( أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا ؟)) قَالَ: لَا. قَالَ: (( فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ ))قَالَ: فَرَجَعَ، فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ.
-ومنها ما رواه مسلم في وصف أيّام زمن الدّجّال عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ ؟ قَالَ: (( أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ )).
- ومنه ما رواه الإمام مالك رحمه الله وغيره أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ حِينَ أَسْلَمَ الثَّقَفِيُّ: (( أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ )).
فلا يمكن أن تكون هنا بمعنى ( كلّ ).
ومن الطّرائف أنّي قد سألت مرّة – وأنا طالب بقسم التخصّص في علوم اللّغة بكلّية الفتح بدمشق - الدّكتورَ عبد الحفيظ السّطليّ فقلت: ما قولكم في قول من أجاز استعمالها بمعنى ( كلّ ) إنّها مشتقّة من ( سُور ) لأنّه محيط بالبلد، فهي محيطة بالأشياء، فقال: اضرب على هذا الكلام بسور !
( فائدة )
اعلم أنّه ينبني على هذا المعنى عمل، فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَيْهِ وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدِهِ شَعَرَهُ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ..))
فالذي يرى أنّها بمعنى ( كلّ ) فإنّه يُعيد صبّ الماء على جميع الجسد، ومن قال إنّها بمعنى ( باقي ) صبّ الماء على ما لم يمسّه الماء من جسده، والله أعلم.