ثمّ يقول صلّى الله عليه وسلّم - كما في الصّحيحين واللّفظ لمسلم -:
(( فَرَكِبْتُهُ [أي: البراق]، حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ...))
هذا المكان الّذي كان يربط فيه الأنبياء البراق قد أُجْمِل في هذه الرّواية، وقد جاء بيانه في حديث قال فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( فأتى جبريل الصّخرة ببيت المقدس، فوضع فيها إبهامه فيها، فخرقها، فشدّ بها البراق "[1].
قال: (( ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السّلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السّلام:" اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ ".
[وفي رواية: فَقَالَ جِبْرِيلُ: " أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ "].
بداية المعراج:
قال صلّى الله عليه وسلّم: (( ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السّلام فَقِيلَ:
مَنْ أَنْتَ ؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.[وفي رواية أبي ذرّ رضي الله عنه:" فلمّا جئنا السّماء الدّنيا قال جبريل عليه السّلام لخازن السّماء الدّنيا: اِفْتَحْ ! "].
فانظر كيف يعلّم الملائكةُ البشرَ الاستئذان.
(( قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ.
قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟
قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ.
فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
[وفي رواية أبي ذرّ رضي الله عنه: فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ:
مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ.
قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: (( مَنْ هَذَا ؟ )) قَال: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى].
والأسوِدة: جماعة من الأشخاص من كلّ جنس ولون.
قال: (( ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السّلام فَقِيلَ:
مَنْ أَنْتَ ؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.
قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ.
قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟
قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ.
فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيْ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، [وفي رواية أبي ذرّ رضي الله عنه: فَقَالاَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ].
وفي صحيح مسلم وصف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخاه عيسى عليه السّلام، فقد روى عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَام مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأْسِ )).
وفي الصّحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ عِيسَى عليه السّلام فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ، أَحْمَرُ، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ عليه السّلام بِهِ )). والدّيماس هو الحمّام، يشير إلى حمرته.
قال: (( ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السّلام، فَقِيلَ:
مَنْ أَنْتَ ؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.
قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وسلّم.
قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟
قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ.
فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ عليه السّلام إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السّلام، قِيلَ:
مَنْ هَذَا ؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.
قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وسلّم.
قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟
قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ عليه السّلام، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}.
[وفي رواية أبي ذرّ رضي الله عنه: فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ].
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السّلام، قِيلَ:
مَنْ هَذَا ؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.
قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وسلّم.
قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟
قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ عليه السّلام، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السّلام قِيلَ:
مَنْ هَذَا ؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.
قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ.
قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟
قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى عليه السّلام، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ:
مَنْ هَذَا ؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.
قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وسلّم.
قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟
قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ.
وفي رواية في الصّحيحين عن أنس رضي الله عنه قال صلّى الله عليه وسلّم:
(( فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى عليه السّلام فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيّ ! فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى، فَقِيلَ: مَا أَبْكَاكَ ؟ قَالَ: يَا رَبِّ ! هَذَا الْغُلَامُ الَّذِي بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي )).
ولم يقل موسى عليه السّلام ذلك حسدا، فالحسد هناك على وجه الأرض، وليس هنا بالسّماء، وإنّما بكى تحسّرا على أمّته المتعنّتة، وإلاّ فقد كان حريصا على خير هذه الأمّة كما سيأتي.
وقد جاء في صحيح مسلم عن ابن عبّاس رضي الله عنه: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا آدَمَ، طُوَالًا، جَعْدًا، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ )).
قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ عليه السّلام مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ[2]، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ[3].
وقال في رواية أبي ذرّ رضي الله عنه: (( ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ عليه السّلام فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ عليه السّلام.
وفي رواية للتّرمذي عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ عليه السّلام لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ )).
وَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم - وهو يصف أباه إبراهيم عليه السّلام -: (( وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ عليه السّلام وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ )).
وفي رواية أحمد عن ابن عبّاس بسند حسن قال صلّى الله عليه وسلّم: (( ونظرت إلى إبراهيم عليه السّلام، فلا أنظر إلى أرب من آرابه إلاّ نظرت إليه منّي كأنّه صاحبكم )).
ثمّ ماذا ؟
قال صلّى الله عليه وسلّم: (( ثمّ ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ...)) وما أدراك ما سدرة المنتهى ؟!
هذا ما سنراه لاحقا إن شاء الله تعالى.
[1] رواه البزّار كما في " تفسير ابن كثير (5/18) ".
[2] جاء تفسير البيت المعمور في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد - واللّفظ له - عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ )).
[3] قال تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر: من الآية 31].