ثمّ لم يستفِق إلاّ على صوتِ المؤذِّن يفجُؤه، وقد حضر وقتُ الصّلاة الأخرى وهو لم يغادر الصّفحة الأولى من كتابه الّذي كان قد عزم على قطع شوطٍ في مطالعته ..
هذه لقطةٌ مكثّفة وحزينة .. مقتطَعة من شريط طالب علمٍ قدّر الله عليه أن يعيش لحظة التّكوين العلميّ في عصر ثورة نُظُم الاتّصالات وشبكات التّواصُل ..
كاتبُ هذه الأسطُر كان لديه مَهامُّ علميّةٌ وعمليّة اصطدم بوقت تسليمها قد أزِف ! فاضطُرّ للتّأجيل ..
فلمّا تفكّر في نفسه رأى جزءاً من الأسباب يقع خلف الاختلاس الشّبكيّ لوقته دون أن يشعُر .. فقرّر أن يدرُس هذه الإشكاليّة، من خلال النّصوص وتحليلات العلماء، وما كشفته الدّراسات المعاصرة لهذه المُعضِلة ...
والحقيقة أنّ الأمر أكبر ممّا كنت أتصوّر .. فلم يعُد مقصُوراً على شكوى الشّاب حديث العهد بطلب العلم والقراءة .. بل باتت الشّكوى من الخاصّة من المشتغلين بالعلم والدّعوة .. وقد بثّ لي بعضُ الأصفياء تباريح عن مثلِ هذه الشّكوى تتفطّر لها أكباد المعرفة:
فبعضُ طلاّب العلم يقول إنّه تأخّر عن إنجاز رسالته الأكاديميّة بسبب انهماكِه في شبكات التّواصُل ...
وآخرُ يذكرُ أنّه بم يستطِع التّوازن فاضطُرّ إلى حذف حسابه مراراً ...
وآخرُ ذكر لي أنّه بات يتصفّح صامتاً ويتحاشى التّعليق في شبكات التّواصُل حياءً من النّاس أن يستشعرُوا غرقَه في دوّامة هذه الشّبكات، وهم يظنّونه قامةً علميّةً جادّةً ...
بل من أعجب ما وقفتُ عليه: حادثةٌ باح بها الفقيه الواعظ د. محمّد المختار الشّنقيطي ... وهي قصّةٌ لها دلالاتٌ تهزّ الوعيَ ... فالشّيخُ الشّنقيطي معروف بابتعاده عن الدّخول في قضايا الشّأنِ العامّ السّاخنة، وانكبابِه على تدريس الفقه ومحاضرات المواعظ الإيمانيّة .. وقد تواتر النّقل عن تنسّكه وانجماعه، وانقباضه عن مسائل الجدل العامّة .. نحسبُه والله حسيبه ..
وفي أثناء محاضرةٍ له سأله شابٌّ سؤالاً يفور بالحرقةِ من معاناته من شبكات التّواصُل .. حيث يقول السّائل:
( فضيلة الشّيخ، ابتُليتُ مثلَ غيري في هذه الأيّام بكثرة تتبّع الأخبار والأحداث، وإدمان برامج التّواصل الاجتماعيّ، ممّا يؤثّر على علاقتي بالقرآن ... لدرجة أنّني أدعو الله في سجودي أن يصرِف الله قلبي عن هذه الملهِيات، وأتركُها أحيانا ثمّ أعود، دُلّوني على الحلّ جزاكم الله خيرا ).
ولن تُخطِئ عينُك - أخي القارئ - حرارةَ الألم في شكوى هذا السّائل بسبب انفلات مِقْوَد التّوازن منه ...
فأجاب الشّيخ الشّنقيطي جوابا مطوّلاً مؤصّلاً علميّاً، ففصّل ولم يُجِب بجوابٍ عامٍّ، بل ميّز في أحوال وأقسام النّاس في التّعامل مع هذه الشّبكات، وبيّن الحال المحمود والمذمومَ ..
وليس هذا كلّه هو الّذي شدّني، بل الّذي باغتني وأنا أستمعُ، وهجمت عليّ من واردات الذّهول ما يعلم الله مداها، أنّ الشّيخ صارح مستمعيه بواقعةٍ يتيمةٍ حدثت له شخصيّاً، وهو المنصرف المنقبض عن هذه الأمور أصلاً ! يقول الشّيخ:
( واللهِ، هذه الوسائل أمرُها عجيب، جلست مرّةً من المرّاتِ على ما يُسمّى بـ" تويتر " - واسمه في النّفس منه شيء -، وفِعلاً جلست بعد صلاة العشاء لأوّل مرّة حتّى فوجِئت بالسّحر ! ذهب عليّ وِردِي من اللّيل، مصيبةٌ عظيمةٌ ! ما تشعر بشيء ! ما تشعر ! ومن يعرف هذه الأشياء يعرف هذا ... ).
أوقفت الاستماع، وأعدْتُ المقطعَ مراراً .. وبقِيتُ مندهِشاً ..
يالله ! هذا الشّنقيطيّ المعرِض عمّا يخوض النّاس فيه، والمنشغل بشرح المتون الفقهيّة والإيمانيّات يقول هذا عن نفسِه في ليلةٍ يتيمةٍ واحدةٍ !؟
فكيف بأممٍ من الشّباب صرعى على جَنَبتَي شبكات التّواصل في السّنوات الذّهبيّة للتّحصيل العلميّ !؟ ".
[عن كتاب " الماجريات "].
*** *** ***
" الْمَاجَرَيَاتُ " مصطلح أطلقه بعض العلماء كابن القيّم والسّخاوي في " الضّوء اللاّمع " وغيرهما على الأحداث والأخبار والوقائع، فهو مركّب من أداة التّعريف ( ال ) واسم الموصول ( ما )، والفعل ( جرى ) ، أي: حدثَ ووقعَ، وجمعوه جمع مؤنّث سالماً.
ويُطلقُها علماء التّزكية والتّربية على ظاهرةٍ مرضيّة شاعت وذاعت فلم يسلم منها إلاّ القلّة القليلة ! وهي: اشتغال المرء بالأخبار والأحداث التي لا نفع فيها.
قال ابن القيم رحمه الله في رسالته إلى أحد إخوانه (ص 5):
" فَإِنّ بركَة الرّجل تَعْلِيمُه للخير حَيْثُ حلّ، ونصحُه لكلّ من اجْتمع بِهِ، قال الله تعالى إِخْبَارًا عَن المسِيح:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ} أَي: معلِّماً للخير، دَاعياً إلى الله، مذكِّراً بِهِ، مرغِّباً فِي طاعتِه، فهذا من بركَة الرّجل، ومن خلا من هذا، فقد خلا من البركة، ومُحِقَتْ بركةُ لقَائِه والاجتماعِ بِه، بل تُمْحقُ بركة من لقِيَه واجتمعَ بِه؛ فإنّه يُضيع الوقت في المَاجَرَيَات، وَيفْسُد القلب، وكل آفَة تدخل على العَبْد فسببها ضيَاع الْوَقْت وَفَسَاد الْقلب ... "اهـ.
وقد وفّق الله تعالى الأستاذ إبراهيم بن عمر السّكران حفظه الله إلى تأليف كتاب نافعٍ جدّا عن ظاهرة " الماجريات "، صدر في شعبان 1436هـ عن دار الحضارة للنشر والتوزيع بالرّياض، فافتتح حفظه الله كتابَه بمدخل رهيب مهيب، وهو ما نقلته لك - أخي القارئ - في مدخل هذ المقال.
والكاتب يعالج هذا الدّاء العُضال بذكر الضّوابط والموازين في تتبّع الأحداث عبر وسائل الإعلام والتواصل، فيكون أمرُه وسطا لا جوراً وشططا.
وأدعو جميع الطّلبة إلى قراءة هذا الكتاب ومطالعته، والمدرّسين إلى تحسيس الّنّاس بهذا الدّاء وبيان سبيل العلاج منه ومن توابعه.
فالكاتب وضع يده على أمورٍ كثيرة لا بدّ من التبصّر بها وإدراكها، من ذلك:
1- ضرورة التمييز بين فقه الواقع والغرق في الواقع.
2- وقوع أكثر النّاس في التصفّح القسْري ! فيجد الإنسان نفسه مضطرًا إلى التصفح أثناء الأوقات الجادة حتّى يفقِدَ الإحساس بالزّمن !
3- وجوب التمييز بين المتابعة المتفرّجة والمتابعة المنتجة، حيث يتوهم البعض أنه بملاحقة " الماجريات " الفكرية والسياسية قد يصنع شيئًا نافعًا، لكن الواقع العملي يثبت أنه مجرد متفرج ليس غير.
4- ضرورة التمييز بين زمن التحصيل والمتابعة وزمن العطاء، فالشاب في السنوات الذهبية للتحصيل العلمي يفترض أن يكون انكبابه وتركيزه الأساس على استثمار هذه اللحظات الثمينة في حياته، فهي مرحلة بناء وليست مرحلة عطاء.
5- التمييز بين توظيف الآلة والارتهان للآلة: فأكثر النّاس صاروا عبيدا لآلات اشتروها !
6- التمييز بين فصل السياسة ومرتبة السياسة.
7- الحذر من تبديد الطاقة الذهنية التي وهبها الله للإنسان.
8- الحذر من الانفصال الأسري.
9- إسعاف ضحايا الخبر ! من داء التعليق، والتّعليق على التّعليق.
فجزى الله المؤلّف خيرا على ما قدّمه، وجعله في ميزان حسناته يوم القيامة، آمين.