***
ثمّ قال رحمه الله:
( والّذي نزل بالقرآن من عند الله تعالى إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جبريلُ أحدُ الملائكة المقرّبين الكرام، قال الله تعالى عن القرآن:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء:192- 195] ).
الشّرح:
فإنّ المؤلّف رحمه الله بعد أن عرّف القرآن الكريم، كأنّه يفصّل ما جاء ذكره في التّعريف، فلمّا بيّن معنى القرآن وأوصافه وأسماءه، وكان منها أنّه منزّل ناسب أن يتحدّث عن التّنزيل، وقد فصّلنا القول فيه.
ولمّا كان منزّلا على النبيّ محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم كان من المناسِب أن يبيّن حال المنزّل عليه صلّى الله عليه وسلّم.
ثمّ شرع في بيان الوساطة بين ربّ العزّة سبحانه والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ما يحملُنا على الحديث عن الوحي.
وإنّ معرفة الوحي وكيفيته أمر مهمّ جدّا، إذ هو السّند الموصل إلى ربّ العزّة تعالى.
ونتحدّث عن الوحي في نقطتين:
النّقطة الأولى: التّعريف بالوحي.
فهو لغة: الإعلام الخفيّ السّريع.
وله في القرآن معانٍ خمسة:
أ) الإلهام الغريزي للحيوان: كقوله تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النّحل:68].
ب) الإلهام التّعليمي للإنسان: ومنه قوله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}، وقوله:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي}، ويقابله:
ج) وسواس الشّياطين: كما في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام من:112].
د) الإشارة السّريعة: ومنه قوله تعالى:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11].
هـ) أمر الله لملائكته: ومنه قوله تعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال من:12].
و) إعلام الله تعالى لعبد من عباده بالرّسالة أو النبوّة: وهو المعنى الشّرعيّ الّذي يتبادر إلى ذهن السّامع، كقوله تعالى:{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشّورى:3].
النّقطة الثّانية: كيفية الوحي إلى الرّسل.
قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشّورى:51].
فهذه الآية تضمّنت أنواع الوحي، وهي ثلاثة على الإجمال، وستّة على التّفصيل:
الأولى: الرّؤيا الصّادقة، وكانت مبدأَ الوحي تهيئةً لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتلقّي الأمر الإلهي، ودامت ستة أشهر فكان صلّى الله عليه وسلّم لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصّبح، وهي باقية للمؤمنين من المبشّرات، وهي المشار إليها بقوله تعالى:{وَحْياً}.
الثّانية: تكليم الله تعالى لرسله بلا وساطة، قال تعالى:{أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}، كما كلّم الله موسى عليه السّلام ومحمّدا صلّى الله عليه وسلّم حين عُرِج به إلى السّماء.
الثّالثة: يتمثل الملك جبريلُ عليه السّلام رجلاً فيخاطب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى يَعِيَ عنه قولَه، وكان يتمثل غالبا بصورة الصّحابي دحية الكلبي رضي الله عنه.
وإنّما قلنا غالبا؛ لأنّه قد ثبت تمثّلُه بصورة رجلٍ لا يعرفونه، كما في قول عمر في صحيح مسلم:" لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ ".
الرّابعة: كان الملك يأتي في مثل صلصلة الجرس، فليلتبس به الملك، وكان أشدّه عليه صلّى الله عليه وسلّم حتّى إنّ جبينَه ليتفصّد عرقا في اليوم الشّديد البرد، وحتّى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان عليها، ولقد جاءه الوحي مرّة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضّها.
الخامسة: أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يرى الملك في صورته التي خُلق عليها فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع لم مرّتين كما ذكر الله ذلك في سورة النّجم: المرّة الأولى في الأرض عندما انقطع عنه الوحي، فكان يمشي ذات مرّة فإذا جبريل يناديه فرفع رأسه ورآه على صورته وله ستمائة جناح، ثم رآه بعد ذلك ليلة عرج به إلى السّماء عند سدرة المنتهى [انظر تفسير ابن كثير].
السّادسة: ما كان يلقيه الملك في روع النّبي صلّى الله عليه وسلّم وقلبِه من غير أن يراه، وهذه الحالات الأربع الأخيرة هي بوساطة الملك والّتي أشار إليها قوله تعالى:{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً}.
تنبيهات:
1- لم يثبت نزول القرآن إلاّ عن طريق الملك، وقد ردّ على من زعم أن نزول سورة الكوثر كان مناما (ص37) وهذا ما اختاره الرافعي في "الأمالي" والسيوطي في الإتقان (1/30) ط دار المعرفة.
2- قوله صلّى الله عليه وسلّم في وصف شدّة الوحي: (( مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ )) لا يتعارض مع الأخبار الدالّة على نفور الملائكة من صوت الجرس.
قال الحافظ رحمه الله في "الفتح" (1/16):" إنّه لا يلزم في التّشبيه تساوي المشبَّه بالمشبّه به في جميع الصّفات كلِّها، بل ولا في أخصّ وصفٍ له، بل يكفي اشتراكُها في صفة ما، فالمقصود هنا بيان الجنس، فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبا لأفهامهم.
والحاصل: أنّ الصّوت له جهتان: جهة قوّة وجهة طنين، فمن حيث القوّة وقع التّشبيه به، ومن حيث الطّرب وقع التّنفير عنه ... ولمّا كان الجرس لا تحصل صلصلته إلاّ متدَارَكَة، وقع التّشبيه به دون غيره من الآلات "اهـ.
3- إنّ القرآن الكريم تلقّاه جبريل عليه السّلام سماعا من الله بلفظه كما دلّ عليه ظاهر القرآن، ولم يتلقّه من اللّوح المحفوظ كما زعم بعضهم.
قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} و(من) للابتداء، وليس وجود القرآن الكريم في اللّوح المحفوظ إلاّ كوجود سائر ما كتبه الله عزّ وجلّ من الأقوال والأفعال.
والله الموفّق لا ربّ سواه.