كانت الكعبة يومها على هيئة تحتاج إلى ترميم وإصلاح، فقد كانت مبنيّة بالرّضم - وهي الحجارة يُجعل بعضها على بعض - ليس فيها مدر.
وكانت غير مسقوفة، وإنّما يوضع عليها السّتر ويسدل عليها.
أمّا ارتفاعها فقد كانت فوق القامة.
وحدث أنّ نفرا سرقوا كنزا للكعبة، وجرت عادتهم أنْ جعلوا ذلك الكنز في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وُجد عنده الكنز رجلا من خزاعة.
فمن أجل ذلك عزموا على أن يسقّفوها ويرفعوها، وهم يهابون هدمها.
ومن محاسن الصّدف أنْ كان البحر قد رمى بسفينة لرجل من تجّار الرّوم، فتحطّمت فأخذوا خشبها فأعدّوه لتسقيفها، ووجدوا روميّا نجّارا، اتّفقوا معه على أن يُصلح لهم سقف الكعبة.
فلمّا أرادوا هدم الكعبة حدث ما تناقلته الألسنة تلك الأيّام، وردّدته على مرّ الأعوام ..
فقد فوجئوا بحيّة تخرج من بئر الكعبة، سوداء الظّهر بيضاء البطن ! فجعلت كلّما دنا منها أحدهم من البيت ليهدمه أو يأخذ من حجارته سعت إليه فاتحةً فاها.
فاجتمعت قريش عند الحرم، فعجّوا إلى الله، وقالوا: اللهمّ ربّنا أردنا تشريف بيتك، فإن أردت ذلك، وإلاّ فما بدا لك فافعل.
عندئذ سمعوا خوارا في السّماء ! فإذا هم بطائر أعظم من النّسر، أسود الظّهر أبيض البطن والرّجلين، فغرز مخالبه في قفا الحيّة، ثمّ انطلق يجرّها.
حينئذ قال أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد عمران بن مخزوم:" لا تُدْخلوا في بنائها من كسبكم إلاّ طيّبا، لا يُدخل فيها مهر بغيّ ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من النّاس ".
[انظر " مصنّف عبد الرزّاق " (5/102)، فالسّند صحيح كما قال الذّهبي في " سيرته "(20)].
وهنا عبرة لكلّ معتبِر، وهو أنّهم على جاهليّتهم وبعدهم عن تعاليم الدّين الحنيف إلاّ أنّهم صانوا بيوت الله من أن تُبنَى بالمال الخبيث، فحريّ بالمسلم أن يكون أولى بذلك.
وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي، تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السّماء عشرين ذراعا.
وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُشاركهم بناءَها، وينقل الحجارة على كتفيه الكريمتين، وحدث له ما يثير الانتباه ..
أمر حدث بمرأى عمّه العبّاس رضي الله عنه، وظلّ كاتما له حتّى أسلم وأخبر به ابنه عبد الله رضي الله عنه ..
فقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليه نَمِرة – وهو كساء فيه خطوط بيض وسود -، فضاقت عليه النّمرة، فأشار عليه العبّاس رضي الله عنه بأمر، فما هو ؟
ذكر الإمام الذّهبي في " سيرته "، وعزاه السّيوطي في " الجامع الصّغير " إلى الطّبراني عن ابن عبّاس عن أبيه العبّاس رضي الله عنهما قال:
" كنت أنا وابن أخي محمّد صلّى الله عليه وسلّم ننقل الحجارة على رقابنا، وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا النّاس ائتزرنا، فبينا هو أمامي خرّ على وجهه منبطحا، فجئت أسعى إليه، وألقيت حجري - وهو ينظر إلى السّماء - فقلت: ما شأنك ؟ فقام وأخذ إزاره، وقال: (( نُهِيتُ أَنْ أَمْشِيَ عُرْياَناً ))، قال العبّاس رضي الله عنه: فكنت أكتمها مخافة أن يقولوا مجنون ".
[قال الشّيخ الألباني في " صحيح الجامع "(11729):" صحيح "].
وقد روى البخاري ومسلم عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ أَخِي ! لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ !
قَالَ: فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا كلّه من عناية الله بنبيّه صلّى الله عليه وسلّم الّذي أنبته نباتا حسنا.
وارتفعت الكعبة من جديد .. وشمخ صرح التّوحيد.
ولم يبق سوى وضع الحجر الأسود مكانه، ووضعه في زاوية الكعبة ..
فمن سيُعيده ..؟ ومن سيضعه ؟.. ومن أحقّ وأولى النّاس به ..
إنّه ممّا تتنافس عليه القبائل جميعها ..
فاختلفوا، وحُقّ لهم أن يختلفوا بتلك العقول التي تُعظّم الأوثان .. وتقوم فيه الحروب الطّويلة لأجل سنام بعير أو ظهر فرس ..
ولكنْ هذا بيت الله، لا يليق أن تُلطّخ لأجله الدّماء ..
لا يليق أن تبني قريش بيت ربّها بدماء أبنائها .. فما المخرج من هذه الفتنة التي ستطلّ من موضع حجر ؟!
فوفّقهم الله إلى كان قرار حكيم: أن يُحكّموا أوّل داخل عليهم إلى المسجد ..
روى أبو نعيم في " دلائل النبوّة " قال:
"وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوّل من خرج عليهم، فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط، ثم يرفعه جميع القبائل كلّها.
ثم وضعه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مكانه.
وفي رواية عبد الله بن السائب: أنّ قريشا اختلفوا في الحجر حيث أرادوا أن يضعوه، حتّى كاد أن يكون بينهم قتال بالسيوف فقالوا:
اجعلوا أوّل رجل يدخل من الباب !
فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا يسمّونه في الجاهلية الأمين فقالوا:" قد جاء الأمين !".
فقالوا: يا محمّد ! قد رضينا بك.
فدعا بثوب، فبسطه، ثم وضع الحجر فيه، ثم قال: (( ليأخذ رجل من كل بطن منكم بناحية من الثّوب، فيرفعوه )).
وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه ".
فكان بيده الشّريفة قد أوقف حربا لا يعلم مداها إلاّ الله.
وكلّ هذا من الأمور تعتبر من الممهّدات للبعثة العظمى، فما من حدث يتعلّق بالدّيانة الّتي تعظّمها العرب وقريش خاصّة إلاّ كانت بصمات بيت بني هاشم عليها: حادثة الفيل وكيف كان موقف عبد المطّلب فيها ؟ وحادثة حفر بئر زمزم، ثمّ حادثة بناء الكعبة.
وبذلك أضافت قريش وساما آخر على كتفي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم .. فبعد أن اشتهر بالعفّة والصّدق والأمانة، اشتُهِر بينهم بالحكمة والحلم ..
حكمة العلماء وحلم القادة الكبراء .. ممّا حبّبه للنّاس، وهذا ما نرى مظاهره لاحقا إن شاء الله.