تضمّنت هذه الفقرة التّعريف بالقرآن الكريم.
أمّا لغة، فقد اختلف أهل العلم في أصل اشتقاقه ومعناه على خمسة أقوال:
أ) فقيل: إنّه جامد غير مشتقّ.
فهو - على هذا القول - عَلم مرتجل لكتاب الله تعالى، ومعنى العَلم المرتجل: أنّه غير منقول من كلمة أخرى، وبعبارة النّحاة:" لم يُعهد له استعمال قبل العَلَمِيّة ".
ويُبعدُه قولُ سيبويه:" إنّ الأعلام كلّها منقولة " كما ذكر الصبّان في "حاشيته على شرح الأشموني".
ب) وقيل: إنّه مشتق من ( قرن ) أي: دلّ، من القرينة؛ لأنّه يدلّ على سبل الخير والصّلاح.
ت) وقيل: إنّه مشتقّ من ( قرن ) أي: ضمّ وجمع، ومنه القرين، والقران، والاقتران، لأنّ القرآن ضمّ كلَّ شيء بين دفّتيه.
ث) وقيل: إنّه مشتقّ من ( قرأ ) بمعنى جمع، ومنه قولهم: قرأ الماء في الحوض، ومنه القرية؛ لأنّها مجتمع النّاس، وعليه سمّي القرآن بذلك لأنّه جمع الخير كلّه، أو جمع علم الأوّلين والآخرين.
ج) وقيل: إنّه مشتقّ من ( قرأ ) بمعنى تَلاَ، وهو قول اللّحياني رحمه الله، واستدلّ بقوله تعالى:{إِنََّ عَلَينَا جَمعَهُ وقُرآنَه فَإذا قَرأنَاه فَاتَّبِع قُرآنَه}.
فعلى هذا يكون القرآن مصدرا بمعنى القراءة، كالغفران والتُكلان وسبحان بمعنى المغفرة والتوكّل والتسبيح، وهو القول الذي رجّحه الأكثرون.
وعليه فإنّ كلّ مقروء يسمّى قرآنا، إلاّ أنّ هذه الكلمة صارت مختصّة بكتاب المولى تبارك وتعالى، فصار له "عَلَمَا شخصيّا" أو "علما بالغلبة".
التّعريف الاصطلاحيّ:
عرّف رحمه الله القرآنَ بقوله: هو كلام الله تعالى المنزّل على رسوله وخاتَم أنبيائه محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، المبدوءُ بسورة الفاتحة، المختومُ بسورة النّاس.
فقوله:" كلام الله "، خرج به كلام غيره.
وقوله: " المنزّل على رسوله محمّد "، خرج بذلك الكتب السّماويّة الأخرى.
وقوله:"المبدوءُ بسورة الفاتحة، المختومُ بسورة النّاس"، قيد خرج به الحديث القُدسيّ.
ومنهم من يُخرج الحديث القدسيّ بقولهم:" المتعبّد بتلاوته "، وآخرون يُضيفون أحكاما أخرى، كقولهم: المعجز، ولا مشاحّة في الحدود إذا لم يكن فيها ما يجانب الصّواب.
***
ثمّ قال رحمه الله:
( وقد حمى الله تعالى هذا القرآن العظيم من التّغيير والزّيادة والنّقص والتّبديل، حيث تكفّل عزّ وجلّ بحفظه، فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولذلك مضت القرون الكثيرة ولم يحاول أحد من أعدائه أن يغيّر فيه، أو يزيد، أو ينقص، أو يبدّل، إلاّ هتك الله سترَه، وفضح أمره ".
الشّرح:
يذكر رحمه الله أنّ أهمّ خصائص القرآن الكريم أنّه مصُون من التّحريف والتّبديل؛ لأنّ الله تكفّل بحفظه.
بخلاف الكتب السّماويّة الأخرى، فإنّه قد نالتها أيدي التّحريف؛ وذلك لأنّه تعالى استحفظ أهل الكتاب، أي: وكل إليهم حفظ الكتاب، قال سبحانه:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}.
ومن هنا ظهر فضل هذه الأمّة على غيرها، حيث إنّ الله وكَل أمر حفظ التّوراة إلى الخلق، وتولّى بنفسه سبحانه حفظ القرآن الكريم، فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
والله تعالى إذا عهِد بحفظ الكتاب فذلك يتضمّن أمرين اثنين يستحيل انعدامُهما:
أ) ظهور الحقّ: فلا يمكن أبدا أن تجتمع هذه الأمّة على الباطل والخطأ، ومصداق ذلك ما رواه التّرمذي بسند حسن عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( إِنَّ اللهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ )).
فمتى اجتمعت الأمّة على شيء فهو حقّ لا ريب فيه، وإلاّ ما كانت تصلح للوسطيّة الّتي ميّزها الله بها، ولا للشّهادة الّتي أناطها الله بها على الخلق.
ب) أنّ ذلك يستلزم حفظَ حملة الكتاب والعاملين به: فلن تُعدَمَ هذه الأمّة أبدا من طائفة يظهر الحقّ على يديها، لما في الصّحيحين عن ثَوْبَانَ وجابر ومعاوية وغيرهم رضي الله عنهم أنّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ))، قال البخاري:" وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ ".
***
ثمّ قال رحمه الله:
( وقد وصفه الله تعالى بأوصاف كثيرة تدلّ على عظمته، وبركته، وتأثيره، وشموله، وأنّه حاكم على ما قبله من الكتب.
قال الله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: الآية 1]، وقال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155]، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77]، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: الآية 9].
وقال تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]، {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُون(125)} [التوبة]، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:الآية 19]، {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52].
وقال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النّحل: الآية 89]، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} [المائدة: الآية 48].
الشّرح:
بعد أن عرّف القرآن الكريم، شرع رحمه الله يذكر صفاته ونعوتَه الّتي نعته الله تعالى بها.
وذكر صفات القرآن أوّلاً مجموعة، ثمّ فصّلها على نحو ما أجمله، وهو ما يُسمّى باللفّ والنّشر.
فقال رحمه الله في اللّف:"وقد وصفه الله تعالى بأوصاف كثيرة، تدلّ على عظمته، وبركته، وتأثيره، وشموله، وأنّه حاكم على ما قبله من الكتب".
1- الوصف الأوّل: العظمة، لذلك ذكر قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، والعظيم إذا وصف الشّيء بالعظمة فذلك يدلّ على علوّ المنزلة والرّتبة.
والسّبع المثاني هي سورة الفاتحة، كما في الحديث الّذي رواه البخاري عنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَلَمْ أُجِبْهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي فَقَالَ أَلَمْ يَقُلْ اللهُ:{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }.
ثُمَّ قَالَ لِي: (( لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ )). ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ.
ومن هذا الحديث ندرك أنّ المراد بالقرآن العظيم في الآية هي سورة الفاتحة، وصنيع الشّيخ رحمه الله يفيد أنّ المراد به القرآن كلّه، فكيف يوجّه ذلك ؟
فالجواب: أنّه إذا ثبت وصف جزء من القرآن بالعظمة، فثبوتُها لكلّ القرآن من باب أولى.
ولعلّه لأجل ذلك ذكر قوله تعالى:{ق وَالقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، والمجيد هو العظيم العالي الّذي لا يعظم ولا يعلو فوقه شيء.
وقد قال تعالى عن القرآن -على قول ابن عبّاس وغيره وهو الأقرب-:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)} [النّبأ].
[يُتبع إن شاء الله].