2) كونها أيّاما من الأشهر الحرم، الّتي أمر الله عزّ وجلّ بتعظيمها فقال:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحجّ: من الآية30].
3) كون تاسعها هو يوم عرفة، وسيأتي المصنّف بالأحاديث الدالّة على فضله في الباب التّالي.
4) كون عاشرها يوم النّحر، وهو أعظم يوم عند الله تعالى.
جاء في سنن أبي داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ )).
وهو يوم الحجّ الأكبر المقصود في سورة التّوبة:
روى البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:" وَقَفَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ، وَقَالَ: ((هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ))، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( اللَّهُمَّ اشْهَدْ )) وَوَدَّعَ النَّاسَ، فَقَالُوا هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ ".
5) وأنّ عاشرها عيد المسلمين:
روى التّرمذي وأبو داود والنّسائي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِوَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ )).
6) وأنّ الله أقسم بها:
فقال:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر]. ذكر كثير من المفسّرين كالطّبري وابن كثير وغيرهما عن ابن عبّاس وابن الزّبير رضي الله عنهم ومجاهد وغيرهم أنّهم قالوا: " هي عشر ذي الحجّة ".
(فائدة):
ظاهر الحديث أنّ أفضل الأيّام عند الله يوم النّحر، وهناك من قال إنّه يوم الجمعة، استدلالا بما رواه مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ )).
ولكنّ العلماء قالوا: إنّ ذلك بالنّسبة إلى الأسبوع، ويوم النّحر فُضِّل باعتبار أيّام العام كلّه.
وهناك من قال: إنّ أفضل الأيّام يوم عرفة. والصّواب أنّ عرفة هي أفضل العشيّ, كما أنّ ليلة القدر هي أفضل اللّيالي.
وتظهر فائدة الخلاف فيمن نذر وعلّق عملا من الأعمال بأفضل الأيّام، كما لو قال: عليّ أن أنحر لله في أفضل الأيّام.
1148- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عزّ وجلّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ. يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ )).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ:
(( وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
رواه البخاري، والتّرمذي، وأبو داود، وابن ماجه.
وفي رواية للبيهقيّ قال:
(( مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى )).
قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ:
(( وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
1149- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ العَشْرِ )).
قِيلَ: وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ:
(( وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ مَنْ عَثَرَ جَوَادُهُ، وَأُهْرِيقَ دَمُهُ )).
[رواه الطّبراني بإسناد صحيح].
1150-وعن جابر رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا العَشْرُ - يَعْنِي: عَشْرَ ذِي الحِجَّةِ -)).
قِيلَ: وَلاَ مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ:
(( وَلاَ مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ عَفَّرَ وَجْهَهُ بِالتُّرَابِ )) الحديث.
[رواه البزّار بإسناد حسن، وأبو يعلى بإسناد صحيح، ولفظه: قَالَ:
(( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ )).
قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ ! هُنَّ أَفْضَلُ أَمْ عِدَّتُهُنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ:
(( هُنَّ أَفْضَلُ مِنْ عِدَّتِهِنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ عَفِيرٌ يُعَفِّرُ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ )) الحديث.
[ورواه ابن حبّان في "صحيحه" ويأتي بتمامه إن شاء الله [في "الضّعيف" أوّل الباب التّالي].
- قوله صلّى الله عليه وسلّم:( ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ) أي: من خرج للجهاد ولم يرجع بشيء يكون أفضلَ من العامل في أيّام العشر، أو مساويا له.
قال ابن بطّال رحمه الله:" هذا اللّفظ يحتمل أمرين:
أن لا يرجع بشيء من ماله وإن رجع هو.
وأن لا يرجع هو ولا ماله، بأن يرزقه الله الشّهادة " اهـ.
وأكثر الرّوايات المذكورة في هذا الباب تؤيّد الثّاني، ففي لفظ – ذكره المصنّف –: (( إِلاَّ مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ، وَأُهْرِيقَ دَمُهُ )).
وفي رواية: (( إِلاَّ مَنْ لاَ يَرْجِعُ بِنَفْسِهِ وَلاَ مَالِهِ )) وفي طريق: (( لاَ، إِلاَّ أَنْ لاَ يَرْجِعَ )) وفي حديث جابر: (( إِلاَّ مَنْ عَفَّرَ وَجْهَهُ فِيالتُّرَابِ )) أي: مات.
- وفي الحديث تعظيم قدر الجهاد، فما وقع سؤالهم هذا إلاّ لما تقرّر لديهم أنّ الجهاد أفضل الأعمال.
- قوله صلّى الله عليه وسلّم: ( العَمَلُ الصَّالِحُ ): لفظ عامّ، تدخل فيه جميع الأعمال الصّالحة، كالإكثار من الصّلاة، والتّهليل، والتّحميد، والتّكبير، والتّسبيح، والصّدقة، وغير ذلك، وهل يدخل فيها الصّيام ؟ قولان:
أ) الأوّل: المنع، واستدلّوا بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يقصد ذلك، روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
( مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ ).
ب) الثّاني: الاستحباب، وهو مذهب الجمهور. واستدلّوا بأمرين:
أوّلا: أنّ الصّيام من العمل الصّالح، قال الحافظ ابن حجر:" واستُدِلّ به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل ".
وثانيا: أنّ عائشة حدّثت بما علمت، وغيرها أثبت الصّيام، ففي سنن أبي داود وأحمد عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم – وهي أمّ سلمة – قَالَتْ:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ: أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ".
[صحّحه النّوويّ والحافظ ابن حجر والألبانيّ، وبعضهم تكلّم فيه من أجل امرأة هنيدة بن خالد].
فإذا صحّ الحديث فإنّ المثبتَ مقدّم على النّافي.
ثمّ إنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يترك العمل وهو يحبّ أن يعمله، خشية أن يُفرض على أمّته، كما في الصّحيحين من حديث عائشة نفسهارضي الله عنها.
- ( فائدة )
إنّ النّاظر في أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، يجد أنّ الله تعالى شرع للعبد أعمالا يشابهُ بها حجّاج بيت الله الحرام، من ذلك:
1- أنّه شرع للمقيم أن يتقرّب إلى الله بالأضحية كما يتقرّب الحاجّ إلى الله بالنّسك.
2- نهى من أراد ونوى الأضحية أن يأخذ من أظفاره أو شعر بدنه شيئا، فقد روى مسلم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِذَا دَخَلَتْ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا وَلاَ يَقْلِمَنَّ ظُفْراً )).
قال الإمام أحمد، وإسحاق، وداود، وأصحاب الشّافعيّ:
يحرم على كلّ من أراد أن يُضحِّي أن يأخذ شيئا من شعره وظفره حتّى يُضحِّي.
قالوا: والحكمة في ذلك أن يتشبّه بالمحرم في بعض أحكامه.
3- الاجتماع في صلاة العيد كما يجتمع الحجّاج عند البيت المجيد.
4- الإكثار من ذكر الله تبارك وتعالى، لا سيما في أيّام التّشريق.
والله الموفّق لا ربّ سواه.