وكيف لا، وهو يسمّى الفرقة كفرا وجاهليّة ؟ كيف لا وقد جعل الله الفرقة عذابا وبليّة ؟
كيف لا وقد سخّر الله للائتلاف كلّ السّبل، وجعل الوحدة وصيّة جميع الرّسل ؟ كيف لا وقد جعل الله الوحدة فارقا بين أهل الجحيم وأهل دار السّلام، وحكم على مفرّق الصّفوف بالموت والإعدام ؟!
فاعلموا أيّها المؤمنون أنّ للفرقة والاختلاف أسبابا، هي من نزغات وخطوات الشّيطان الرّجيم .. فما على المؤمن الحريص على رضا مولاه الغفور الرّحيم إلاّ أن يعلم هذه الأسباب، ويسدّ على الشرّ والسّوء كلّ باب ..
- أوّلا: أوّل أسباب الفرقة على الإطلاق: ترك التّحاكم إلى شريعة الله عزّ وجلّ:
فما اختلف اثنان قط إلاّ وبإمكانهما الاجتماع، وذلك بالرّجوع إلى الحقّ.
انظر إلى اختلاف الصّديقين .. انظر إلى اختلاف الزّوجين .. انظر إلى اختلاف المتبايعين .. سترى أحدهما أو كليهما قد ابتعد ولو شبرا عن الحقّ؛ لذلك أمر الله عند التّنازع بالرّجوع إليه، وعند الشّقاق بالإقبال عليه، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: من الآية59].
ويؤكّد ذلك ما رواه ابن ماجه بسند صحيح عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي الله عنه قال: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: (( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ - وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ - فذكرها حتّى قال -: وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ )).
وهاهم أؤلاء أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اختلفوا بعد موته في سقيفة بني ساعدة: أيّهم يكون خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟ فقال أحدهم: منّا أمير ومنكم أمير ! فقال: أبو بكر: لا، ولكن نحن الأمراء وأنتم الوزراء فبايِعوا عمر.
ولمّا سمعوا قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ )) أذعنوا جميعهم لأمره، وردّ الله كيد الشّيطان في نحره.
وقس على ذلك كل أمر أمرنا به الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في أحكام البيوع، والنّكاح، والحقوق، وغير ذلك.
فلو رجع أهل البيت الواحد في المشكل الواحد إلى حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لقُضي على الخلاف في مهده، ووُضِع في لحده.
ثانيا: الحسد.
مرض قتّال، وداء عُضال، أدرك الشّيطان أنّه هو سبب طرده من رحمة الله، فراح يزرع بذوره في قلوب النّاس على مرّ العصور.
فراح يحرّض الأخ على فتل أخيه، قال تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)}.
فمنذ تلكم اللّحظة سُنّ القتل في هذه الحياة، وزُرِع الحسد بين الإخوة والأخوات، روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ بنِ مسعود رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ )).
وما كفر من كفر من أهل الكتاب والمشركين إلاّ حسدا من عند أنفسهم.
وهذا أبو جهل، ما الّذي حمله على الكفر والعناد، والشّرك ونشر الفساد ؟ إنّه الحسد .. فهو القائل عن بني هاشم: قالوا فينا السّقاية فقلنا فينا الحجابة، حتّى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلاّ كفرسي رهان قالوا: فينا نبيّ ؟! لا والله لا يكون ذلك أبدا.
ثالثا: ترك التّطاوع.
التّطاوع أن تُحسن عشرة الإخوان فلا يسمعوا منك كلمة "لا" .. توافقهم ولا تخالفهم في الأمور الّتي لا معصية فيها، وهذه وصيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه، فقد روى البخاري ومسلم أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: (( يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا )).
ورضي الله عن ابن مسعود، فقد روى أبو داود عن عبدِ الرّحمنِ بنِ يزيدَ قال: صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ " فَقِيلَ لَهُ: عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ صَلَّيْتُ أَرْبَعًا ؟! قَالَ: "الْخِلَافُ شَرٌّ ".
وفي صحيح مسلم عن جَابِر بن عبدِ اللهِ قال: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ: ( لَا ).
ما قال: لا، إلاّ في تشهّـده *** لولا الشّهادة لكانت لاؤه نعم
حتّى ولو كنت على حقّ ونصحت بحكمة ورفق، ثمّ رأيت من تحدّثه قد أصرّ على رأيه، فقل كلمتك وانصرف، لئلاّ تفتح للشّيطان بابَ فرقة، وأبشر بوعد الله تعالى لك على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - فيما رواه أبو داود والتّرمذي - : (( أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ - في أطرافها - لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ )).
رابعا: الغلوّ في المزاح.
إمّا بالكلام، أو بالأفعال، فقد قال الله تبارك وتعالى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء:53]، فإن كنت تريد المزاح فاختر من الألفاظ ما لا سبيل للشّيطان فيه، واختر من الأفعال ما لا بأس يعتريه.
فإنّ هناك حروبا نتجت عن كلمات قليلة، فدامت أعواما طويلة، ولاحظوا القصّة - التي رأيناها في الخطبة الأخيرة - قصّة ذلكم المهاجريّ الذي كسع الأنصاريّ، فغضب غضبة مضرية، فتداعوا: ذاك يقول: يا للمهاجرين ! والآخر: يقول: يا للأنصار ! فقد جاء وصفه في الحديث أنّه لعّاب، فمبالغته في المداعبة كادت أن تُضرم نارا ما لها من خمود، وحربا ما لها رقود.
لذلك روى الإمام مسلم عن أَبِي هريرةَ قال: قال أبو القاسمِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ )). قال العلماء: ولو كان مازحا، سدّا لباب الشّيطان..
خامسا: الجهل.
الجهل الّذي ضُرِب خباؤه على هذه الأمّة، فنتج عنه كلّ كرب وغُمّة .. وللجهل صور عديدة:
1- جهل العوامّ: فتراهم يرتكبون المحرّمات التي تُفضي إلى النّزاعات والاختلافات، فهذا يبيع على بيع أخيه جاهلا، وذاك يخطِب على خطبة أخيه غافلا، بل إنّ هناك أمورا دقيقة خفيّة قد يظنّها الجاهل لا شيء فيها، وإنّ من ورائها هجرا يدوم دهرا.. ومن الأمثلة على ذلك:
التّناجي دون الثّالث: فقد روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ بنِ عمر رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ )).
ويقول المولى تعالى:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10].
ترك الاتّفاق على الأجور وقت العمل، فكثير من النّاس يلبّس عليهم الشّيطان فترى أحدهم يقول: لا إشكال، ولا نزاع.. والعلماء ينصّون على بطلان هذه المعاملة، وأنّه لا بدّ من الاتّفاق على العمل وأجرة العمل..لمه ؟ قالوا: لئلاّ يكون هناك خلاف..
ونصّ الفقهاء على وجوب عدّ المال الذي يعطيك إيّاه أخوك، وذلك لسدّ باب الشّيطان الرّجيم، فلربّما كان المال أنقص، فيوحي الشّيطان إلى الطّرفين بأنّ هناك غشّا.. وغير ذلك من الأحكام المهمّات..
2- النّوع الثّاني: جهل من ينتسبون إلى العلم، فعلى مرّ قرون وقرون ظلّ المسلمون لا يحاولون القضاء على الخلافات الفقهيّة فيما بينهم ظنّا منهم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ( اختلاف أمّتي رحمة ) ! وهذا من الأحاديث الباطلة التي وضعها الشّيطان الرّجيم بدلا من كلمة أصحاب الصّراط المستقيم: (الخلاف شرّ)، وليت شعري إذا كان الخلاف رحمة فالاتّفاق إذن نقمة ؟!
3- جهل من لبس لباس طلبة العلم، فهؤلاء جهلهم خير من علمهم، وكما قال ابن قتيبة رحمه الله:" وكنّا قديما نعتذر من الجهل، فصرنا اليوم نعتذر من العلم "؛ لأنّ هؤلاء جعلوا الأصل في هذه الأمّة أن يكون أمرها شتّى ! فصاروا لا يقدرون للمصالح والمفاسد قدرها، وأفسدوا على هذه الأمّة أمرها، وظنّوا أنّ الحقّ يجب الصّدع به والإنكار على مخالفه في كلّ آن وعلى أيّ حال !
فهؤلاء نذكّرهم بقول المولى تبارك وتعالى:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83].
ونزفّ إليهم أثرا من آثار خير القرون، فقد روى البخاري ومسلم أنّ رجلا قال: والله ما كان بيعة أبي بكر إلاّ فلتة، وكانوا في موسم الحجّ، فهمّ عمر أن يقوم في النّاس خطيبا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عوف: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! إِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُمْهِلَ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ؛ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ وَالسَّلَامَةِ، وَتَخْلُصَ لِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ وَذَوِي رَأْيِهِمْ. قَالَ عُمَرُ:" لَأَقُومَنَّ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ ".
4- ومن صور الجهل: الجهل بفقه الخلاف، فلا يميّز بين الأصول والفروع، ولا بين مسائل الاجتهاد والتي لا تقبل العناد، ولربّما سكت عن كبيرة وحاربك لأجل صغيرة !
فإلى هؤلاء أيضا نزفّ إليهم ما رواه البخاري ومسلم عن ابنِ عمرَ رضي الله عنه قال: قَال النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ: (( لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ )) فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ.
حُرِمُوا هداية دينهم وعقولهم *** هذا وربّك غاية الخســران
تركوا هداية ربّهم، فإذا بهم *** غَرْقى من الآراء فـي طوفـان
وتفرقوا شــيعاً بها نهجهم *** من أجلها صاروا إلـى شنـآن
فبسبب أمثال هؤلاء ضاعت معالم الإسلام، ومبادئ الإيمان والإحسان، أمّا حسن الظنّ بالمسلم فدفنوه، وأمّا الاعتذار له فقبروه، وأمّا وجوب التثبّت في أمره فطمسوه .. وأمّا كفران العشير فرفعوه، وأمّا أمر تتبّع العيوب، وإبداء ما ستره علاّم الغيوب فنشروه.. وكلّها أمراض ما لها من رادّ سوى الواحد الأحد.
فقد ينبِت الدّم على مرعى الثّرى *** وتبقى حزازات النّفوس كما هيا
أيذهب يـوم واحـد إن أسأته *** بصالح أيّامـي وحسـن بلائيـا
وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة *** ولكنّ عين السّخط تبدي المساويا
الخطبة الثّانية:
أيّها المؤمنون..فاعلموا أنّ أسباب الخلاف والشّقاق كثيرة وكثيرة، كلّما سدّت باب فتحت باب أخرى، مصداقا لقوله تعالى بيانا لكيد الشّيطان:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]. لذلك سنوجز في ذكر بقيّة هذه الأسباب:
5-خامسا: حبّ الدّنيا.
فكم رأينا ممّن كانوا تحت سقوف الودّ والإخاء، والألفة والوفاء، دام بينهم المعروف طويلا، ولم يجد الشّيطان إلى تفرقتهم سبيلا، فأجلب عليهم بخيله ورجله، ونادى على الدّنيا فقالت: ما دخلت بين اثنين إلاّ تفرّقا، وما دخلت قلبيهماإلاّ تمزّقا ! فصار الودّ عداء، والمحبّة بغضاء، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال: (( وَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا؛ وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ )).
فترى الأخوان افترقا لأجل درهم أو دينار، وآخران لأجل امرأة أو عقار.. وصدق قول الواحد القهّار:{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:120].
5- سادسا: العصبيّة..إمّا للمصر، أو القطر، أو البلد، أو النّسب، أو الشّيخ، وغير ذلك.
فهذا - كما سبق - من دعوى الجاهليّة، والله تعالى قد أدّب الأوّلين بما لو نزل على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران].
ونذكّر إخواننا - وكلّنا معرّضون لمثل هذه المزالق - بقول الله تعالى:{إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً} [لأنفال: من الآية70].
كما نذكّركم أنّ عدوّ الله إبليس وأنت على معصيتك، مصرّ على خطيئتك، تراه من الآن يتبرّأ منك قبل الآخرة، قال الله تعالى:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48].
أمّا يوم القيامة، فقد بيّن الله تعالى لنا موقفه:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].
هذه بعض أسباب الخلاف والشّقاق، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرينا الحقّ حقّا ويرقنا اتّباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنّه أكرم مأمول وأعظم مسؤول.