وأوّل ما تكلّمنا عنه من تلكم المصايد والمكايد: الغفلة .. ذلكم الدّاء العُضال، والمرض الفتّاك .. فلا يَصدّ عن الخير وعن الله أكثر من الغفلة.
لذلك قطع الله تعالى بها الاحتجاج عن خلقه يوم القيامة، فقال:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172].
وما أحسن تفسيرَ الفضيل بن عياض لقوله تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} ! قال رحمه الله:" لا تغفلوا عنها فمن غفل عن نفسه فقد قتلها".
ونواصل اليوم في ذكر بعض هذه المكايد والمصايد، فقد قال أهل العلم: من أعظم أسلحة الشّيطان الرّجيم:
حسن الظّنّ بالنّفس.
هذه النّفس التي وصفها المولى تبارك وتعالى في كتابه الكريم قائلا:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: من الآية53].. تجد ابنَ آدم اليوم يزكّيها ويبرّئها ! بل يثني عليها ويمدحها ! وكأنّ نفسه لم تدخل في الخطاب.
فإذا أوقعه الشّيطان في ذلك أورده المهالك .. لأنّ حسن الظنّ بالنّفس يجعلك تقع في مصيبتين:
المصيبة الأولى: الغفلة عن عيوبها، فترى المساوئ محاسن، وترى السّيئات قربات ! وترى العيوب كمالا، والذّنوب جمالا !
وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة *** كما أنّ عين السّخط تُبدي المساويا
قال بعض الصّالحين:" متى رضيت عن نفسك فاعلم أنّ الله غير راض عنها ".
وروى ابن أبي الدّنيا في "محاسبة النّفس" عن أبي الدّرداء رضي الله عنه أنّه قال:" لا يفقه الرّجل كلّ الفقه حتّى يمقت النّاس في جنب الله، ثمّ يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدّ مقتا ".
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يوما وبيني وبينه جدار يقول: عمر بن الخطّاب أمير المؤمنين ؟! بخٍ ! والله لتتّقينّ الله يا ابن الخطّاب أو ليُعذّبنّك.
وذكر ابن الجوزي في " صفة الصّفوة " أنّ الأحنف بن قيس كان عند الانتهاء من الصّلاة والدّعاء يأتي بالمصباح، فيضع أصبعه فيه ثمّ يقول: يا حنيف ! ما حملك على ما صنعت يوم كذا ؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا ؟
هذا الأحنف الذي قالوا فيه: ما رأينا أحدا أعظم سلطانا على نفسه منه.
وهذا بكر بن عبد الله المزني رحمه الله يقول وهو في جمع يوم عرفة:" ما أحلى هذا الجمع لولا أنّي فيهم !".
وقال غيره: لولا أنّي معهم لقلت إنّه مغفور لهم.
وقال مطرّف بن عبد الله في وقفة عرفة: اللهمّ لا تردّ هذا الجمع من أجلي.
وقال مالك بن دينار: إذا ذكر الصّالحون فأفّ لي وتفّ !
المصيبة الثّانية: الاهتمام والانشغال بعيوب النّاس.
فإذا كان العبد يحسن الظنّ بنفسه فلا مفرّ من أن ينشغل بعيوب غيره، فقد روى ابن حبّان بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ القَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنْسَى الجِذْعَ فِي عَيْنِهِ )).
والله لو علموا قُبـح سريرتي *** لأبـى السّلام عليّ من يلقاني
ولأعرضوا عنّي وملّوا صحبتي *** ولبُؤْت بعد كـرامة بهـوان
لا تشغلنّ بعيب غيرك غافلا *** عن عيب نفسك إنّـه عيبان
وكان أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه يُكثِر من أن يقول:" اللهمّ اجعلني عندك من أحسن خلقك، وعند النّاس من أوسط خلقك، وعند نفسي من أحقر خلقك "..
- فبعد الاغترار بالنّفس، يبدأ المرء في التّفتيش والتّنقيب عن عيوب النّاس، يعيش {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: من الآية 39]..
- وبعد أيّام يصبح هذا الانشغال بعيوب النّاس سجيّة وخصلة لا تنفكّ عنه، فيستعظم وقوع الصّغائر من النّاس ويغفل عن الكبائر من نفسه، وإن تفطّن لعيبه وجد له ألف عذر وعذر، أمّا أن يجد عذرا واحدا لمن معه فذاك فيه نظر..
قال تعالى:{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:120] وقال:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112].
- وبعدها بأيّام يصبح هذا الانشغال بعيوب النّاس قربة من القرب، وعبادة من العبادات، ويسمّيه نقدا، وتقويما، وبيانا، وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وهو في الحقيقة غيبة ومصيبة، ولكن كما قال تعالى: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: من الآية12]، وقال جلّ ذكره:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]، وقال عزّ وجلّ:{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14].
الخطبة الثّانية:
الحمد لله على إحسانه، وعلى جزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، اللهمّ صلِّ عليه وعلى أصحابه وآله، وعلى كلّ من سار على هديه ومنواله، وأمّا بعد:
فإنّ حسن الظنّ بالنّفس مدخل عظيم وعظيم من مداخل الشّيطان الرّجيم، به استطاع أن يجعلنا أُسَارى ذنوبنا، وعَوَانِيَ عيوبنا، فما السّبيل إلى الاهتمام بعيوب النّفس، وترك الانشغال بعيوب النّاس ؟
أوّلا: سل ربّك سبحانه وتعالى تزكيةَ نفسِك، وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُكثِر من أن يقول: (( اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا )) [رواه مسلم].
ثانيا: لا يعينك شيء أبدا على الاهتمام بالنّفس من أن تجعلها أبغض شيء إليك، كما سبق بيانه في كثير من أقوال السلف.
ثالثا: لا تغترّ بطاعتك، بل سل الله التّوفيق والقبول، فقد ذكر الله لنا عن أرباب العزائم وهو يثني عليهم قائلا:{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
فبعد صبرهم وصدقهم وقنوتهم وإنفاقهم استيقظوا يستغفرون بالأسحار؛ لأنّهم علموا أنّهم عاجزون كلّ العجز عن شكر نعمة الله تعالى عليهم.
وبعد انقضاء صلواتهم استغفار، فقد روى مسلم عن ثوبانَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّمِ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَقَالَ: (( اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ )).
وبعد إفاضتهم من عرفات، وبعد تضرّع وذكر وتهليل وتحميد وتسبيح لربّ الأرض والسّموات هناك استغفار، قال تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]..
وخاتمة الوضوء استغفار، وخاتمة مجالس العلم استغفار فقد روى أبو داود وغيره عن عبدِ اللهِ بنِ عمْرِو رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( كَلِمَاتٌ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِنَّ أَحَدٌ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ قِيَامِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَّا كُفِّرَ بِهِنَّ عَنْهُ، وَلَا يَقُولُهُنَّ فِي مَجْلِسِ خَيْرٍ وَمَجْلِسِ ذِكْرٍ إِلَّا خُتِمَ لَهُ بِهِنَّ عَلَيْهِ كَمَا يُخْتَمُ بِالْخَاتَمِ عَلَى الصَّحِيفَةِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ )).
وبعد أداء الرّسالة وتبليغ الأمانة أمر الله رسوله بالاستغفار:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3]..
فهذا الأمر بالاستغفار جاء بعد أعظم العبادات للعليّ الغفّار، موجّها للصّالحين والأبرار، فكيف يغترّ بعد ذلك أحد ؟!
رابعا: تذكّر أنّ قلبك بين أصبعين من أصابع الرّحمن يقلّبه كيف يشاء، ولن يُوفّق إلى الثّبات إلاّ من احتقر نفسه، واهتمّ بعيوبها، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]..
أمّا لو عكست الأمر، وصرت متصيّدا لعيوب النّاس دون عيبك فاعلم أنّ الدّائرة تكون عليك، وقد قال الحُكماء:" لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ ".
إذا تذكّرت ذلك كلّه فإنّ الشّيطان سيرجع ويخنس كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]..
ونختم لقاءنا هذا، بما ذكره سفيان بن عُيينة قال: قال إبراهيم التّيمي رحمه الله:
" مَثَّلْت نفسي في الجنّة، آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثمّ مثّلت نفسي في النّار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أيْ نفسُ ! أيّ شيء تريدين ؟ فقالت: أريد أن أُرَدّ إلى الدّنيا فأعمل صالحا، قال: فقلت لها: فأنت في الأمنية فاعملي ".
سبحانك اللهمّ وبحمدك، لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.